(الكلمة التي استهلت بها د.سعاد الصباح أمسيتها في جدة – الأحد 30/4/2000)
قراءة الشعر في المملكة العربية السعودية، تختلف عن قراءته في أي منطقة عربية أخرى، فأنا هنا يتملكني إحساس نقي، وشفاف، ورسولي، لا أعرف كيف أعبر عنه.
فعن يميني تهب رائحة النبوة..
وعن شمالي تهب رائحة سوق عكاظ..
من هنا يأتيني عبق الآيات المعطرة بأريج السماءْ..
ومن هناك يأتيني عبق المعلقات المنقوشة على جدران الكعبة..
فما أسعدني حين أغتسل بالعطرين؛ عطر النبوة وعطر الشعر!
وما أروع هذا الإحساس الذي يجعلني معلقة كالحمامة بين مقاصير الملائكة وأرض البشر، بين أراجيح الحلم وضفائر النخيل!
المملكة العربية السعودية هي أرض الشعر، فإذا قرأت قصائدي فيها، أكون كمن يحمل الماء إلى البحر، ويحمل العنب إلى الكرمة، ويحمل الكحل إلى العيون السود.
ثم ما يقول الفرزدق، والنابغة، وزهير بن أبي سلمى، إذا وجدوني أجلس في خيمتهم، وأتدفأ على نارهم، وأشرب القهوة المُرّة من فناجينهم، وأقرأ عليهم بعض الشعر العربي الحديث الذي نكتبه في القرن الخامس عشر للهجرة؟
أكيد أنهم سيتصرفون بحضارة، وسيصغون إليّ بحضارة، وسيكونون حين يعرفون أن تراثهم الشعري الجميل لا يزال مخزوناً في دورتنا الدموية منذ خمسة عشر قرناً.
أيتها الصديقات:
صوتي الذي سوف تسمعونه، ليس صوتاً مفرداً.
فأنا حين أقرأ شعري، أشعر بأن جميع النساء العربيات يولدن في حنجرتي، ويخرجن من بين شفاهي.
بمعنى آخر، إن ما تقوله سعاد الصباح ليس عزفاً منفرداً تؤديه امرأة واحدة، وإنما هو نشيد كورالي تتداخل فيه ألوف الأصوات، وتشترك في أدائه ألوف النساء.
فالحب الذي أكتب عنه ليس حبي الخصوصي فحسب.
والحزن الذي أعبر عنه ليس حزني الذاتي، والدمع الذي أذرفه يهطل من عيون جميع نساء بلادي.
إن صوتي أيتها العزيزات، ليس صوت المرأة الكويتية وحدها.. ولكنه صوت المرأة السعودية، والقطرية، والعمانية، والبحرينية، وامرأة أبو ظبي والشارقة ورأس الخيمة وامرأة مصر والشام والمغرب العربي.. نعم إنني كل هؤلاء النسوة معاً، بل أنا مليون امرأة في امرأة واحدة، إنني فيما أكتب، أحاول أن أكون الناطقة الرسمية بلسان جميع المقهورات، والمسحوقات والمذبوحات من الوريد إلى الوريد من أجل جريمة وهمية.
وهكذا يأخذ الشعر أبعاده الشمولية والإنسانية، وإذا كنت بحكم موقعي وظروفي أستطيع أن أحول الآهات إلى كلمات، وأحول الجرح إلى قصيدة، وأمزق لحم الورق بأظفاري، فإن الغالبية من نساء بلادي يعشن في الإقامة الجبرية دون أن يسمح لهن بالبكاء، أو حق الصراخ، أو حق الكتابة.
يا صديقات الفكر..
استضافتني مدينة الرياض منذ عامين.. قبل أن يفرض عليّ المرض الإقامة الجبرية بين مقعد وسرير.. وها أنا أعود والحمد لله إلى عروس البحر الأحمر، في أول أمسية شعرية لأرتمي في أحضانها معلنة من هذا المنبر أنني سأبقى قوية بالله ثم بكم، وعاشقة لكم، وداعية إلى الله بأن يحفظ هذا البلد سيفاً للمسلمين وخيمة للعرب ومهراً من الحب والحنان والرحمة لمحبيه.
شكراً وألف شكر لحضوركن الذي يعيد إلى روحي ضوءها وإلى جسمي العليل صحوة العافية.