إن قراءة الشعر في مصر توقع الشاعر في تناقض مع نفسه، ومع الشعر، ذلك لأن مصر، من حيث التشكيل الثقافي والجمالي، هي خلاصة الشعر، فأي ورطة يقع فيها الشاعر حين يحاول أن يحمل إلى نهر النيل قطرة ماء.. وإلى أرض مصر الحبلى بملايين القصائد… قصيدة جديدة.
ثم إن مصر في مطلع الستينيات كانت ينبوعي الثقافي الأول الذي شربت منه حتى ارتويت، فعلى أرضها الطيبة نبت ريشي، وكبرت أجنحتي، وأورقت حنجرتي… وولدت قصائدي الأولى، وعلى تراب مصر بين الجيزة ومصر الجديدة وجاردن سيتي حبوت وركضت وترعرعت جسدياً وفكرياً، وأعطاني أساتذتي الأجلاء، في جامعة القاهرة مفاتيح المستقبل.
إذن فمصر هي الصدر الذي أسندت رأسي إليه، ورضعت منه حليب المعرفة، وغذاء الفكر.فإذا عدت إلى مصر اليوم لأقرأ شعري، فلأن العصافير مهما ابتعدت عن أشجار طفولتها، فلا بد لها أن تعود إلى ملاعب صباها، ولأن القصائد مهما هاجرت، فلا بد لها من العودة إلى وطنها الأول.
وإذا كنتُ قد تكونت على يد مصر ثقافياً، فقد تكونت على يدها قومياً أيضاً، فأنا من الجيل الذي شهد العصر الذهبي للمد الوحدوي العربي، كما شهد أروع وأعظم معاركنا القومية.
نعم، أنا امرأة من جيل الأحلام الكبرى، والتحولات الكبرى، امرأة عاشت التاريخ العربي وهو في ذروة كبريائه وقمة تحدياته.. وكانت مصر يومئذ وردة العالم العربي، ونشيده وسيفه.
في الخمسينات كان قلبي مجنوناً من الفرح، ومشتعلاً كشمس أفريقية، ومسكوناً بالزلازل والأعاصير، وكنت أنام وأصحو على نشيد (اللّه أكبر) (واللّه زمان يا سلاحي) فتتساقط الدموع من أهداب قلبي.
في تلك الأيام العظيمة، كنا نقتطف الحلم من شجر المستحيل، ونكتب الشعر على بوابات السماء، ونحلم بالإمبراطورية العربية الكبرى التي لا تغيب عنها الشمس.
كانت طموحاتنا أكبر من مساحة الشمس، فصارت أصغر من مساحة قرص الفاليوم، كان الوطن في عيوننا لا نهائياً كالبحر، وصار الوطن في هذه الأيام ضيقاً كالزنزانة، كنا نأكل رغيفنا اليومي من القمح الخالص، فصرنا نأكله معجوناً بالإرهاب الخالص، والدمع الخالص.
في هذا الزمن العربي الذي لا يوجد وصف له يأتي دور الشعر ليعيد إلى النفس العربية أصالتها، ويعيد إلى النفس العربية مصداقيتها، ويعيد للإنسان العربي إيمانه بأن شمس الحرية لن تنطفئ، وأشجار الأمل لن تيبس.