بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأحباء.. الأحباء
يا حمائم القلب، وأزاهير الروح، ويا نبض الوطن
يا وجوه أحفادي.. ويا عبق طفولتي التي أراها تتلألأ في ملامحكم الجميلة النبيلة..
حتى أراني بينكم الآن طفلة نهضت في قلبها الأحلام.. فشقت طريق المجد، وخاضت في بحار العلم والمعرفة والنضال.. ثم عادت منتصرة. تفخر بكل إنجازٍ، وبكل جرح.. فجروح المحاربين والفاتحين هي جزء من بطولاتهم.
يا أمل الكويت بغدٍ بهيٍّ، مكلّلاً بنور العلم محاطاً بسور المعرفة.. شاهقاً بالطموحات الكبرى.
يا أنتم..
يا فهد.. يا عبدالله.. يا سعاد.. وفضيلة.. وبقية أحفادي الذين أطالع عيونهم في عيونكم..
..
جئت إليكم لأحكي لكم طرَفاً من سيرة مواطنة كويتية عربية اسمها “سعاد محمد الصباح”.. فلها حكاية تستحق أن تروى منذ الضحكة الأولى حتى الدمعةِ الأخيرة، ومن أول صرخة بحثت فيها عن قطرة حليب إلى آخر صرخة طالبت فيها بماء الحرية من مجتمعاتِ الملح.
هي امرأة تشكلت طفولتها في ملاعب الشمس والرمل والماء.. بين فرجان الكويتِ العتيقةِ العريقة.. عندما كانت تبحث عن لؤلؤة بلون الحلم لتتعلمَ في مدرسة الأسماك أبجدية الإبحار، وتقرأَ أول دروسها في ثقافة الأرض.
كانت سعاد ترفض أن توضع كقنينة عطر فوق الرف، أو شجيرة زينة في ركن بيتٍ ظليل.. لأنها نشأت بين يدي والد يؤمن بعقل الأنثى.. وتسلمها من يده زوجُ يؤمن بقلب الأنثى.. وكان كلاهما يعطي للمعرفة قدرَها..
..
هل تصدقون أنها كانت أربعة أشياء معاً..
كانت: طفلة، وزوجة، وأمّاً، وطالبة معاً.. لأنها آمنت بأركان النجاح الأربعة: (الإيمانُ بالله، والطموحُ، والمثابرةُ، والصبر).
فبعد حصولها على شهادة الثانوية في الكويت.. كانت أول خليجية تصعد أسوار العالم الآخر البعيد..
سافرت إلى الخارج يدها بيد صديقها وحبيبها.. زوجها الرائع الشيخ عبدالله المبارك الصباح..
وإذا كانت النفوسُ كبارا تعبت في مرادها الأجسامُ
حملتها سفينة الحياة في بدايات الستينيات من الكويت إلى بيروت، لتطل من الشرفة اللبنانية على الثقافة والفكر الحر.
وكانت بمثل أعماركن عندما انطلقت إلى أم الدنيا لتحصل من هناك على شهادة البكالوريوس من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعةِ القاهرة..
وهناك عاشت في ذروة المد القومي.. ووقفت في الخطوط الأمامية في حرب 1967 تداوي الجرحى.. وتعالج الألم بالأمل، وتقتلُ الوجعَ بالطموح..
ولم يقف قطار حلمها.. بل إن كل محطة نهاية هي محطة بداية جديدة.. ومن هناك كانت رحلة استكمال الدراسات العليا إلى كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، ثم إلى جامعة ساري في بريطانيا حيث الشابة الجادة الطموحة تسابق الزمن وهي تحمل كتبها وتأكل وجبة سريعة في كافيتيريا الجامعة ثم تنطلق إلى قاعات الدرس..
ثم تعيش أجمل وأجلّ لحظاتها وهي تقضي الساعات الطوال في مكتبة الكليّة تفتح صفحات العلم، وتقلّبُ أوراق التاريخ ورقة ورقة..
تخطط لأحلامها حلماً حلماً..
تحب الفن.. فترسم لوحة
تعشق الشعر.. فتكتب قصيدة
تدرس الاقتصاد.. فتبحث عن آفاق تطوير اقتصاد وطنها
تنشر رأيها في الصحافة.. تقيم أمسية.. تناقش فكرة.. وتواصل النحت على جسد الزمن.. حتى جاء يوم التتويج..
يوم كانت أول كويتية تقف على منصة المتميزين المتفوقين مع مرتبة الشرف.. وهي تحصل على شهادة الدكتوراه..
آه يا أحبابي.. لو أعطي كلاًّ منكم نسخةً من إحساس قلبي في ذلك اليوم..
آه.. لو تعرفون لذة الفوز، لجالدتُّم الحياة حتى تحققوه..
..
لكن إنجازات سعاد لم تتوقف عند ذلك.. فبعد العلم جاء العمل.
بدأت تغرس بذور معرفتها في تربة وطنها.. عبر التخصص الاقتصادي وعبر الهواية الأدبية في فن الرسم وفن الشعر..
كانت تؤسس نفسها لتكون نخلة باسقة شامخة تحمل في جريدها قضايا بلادها وأوجاع أمتها.. وكان الإنسان هو قضيتها الأولى وشغلها الشاغل..
الإنسان في أي مكان..
تدافع عن حريته، وتطالبُ بحقه في التعليم والتفكير والتعبير والعيش بكرامة..
..
كان العالم هو وطنها.. وكانت الكويت هي نبضها.. عندما قالت (كل دبوسٍ إذا أدمى بلادي.. هو في قلبي أنا).
..
خاضت وأعطت وتفانت في مجالات التربية والتعليم وفي أندية السياسة وبيوت الاقتصاد والثقافة في الوطن العربي وفي أوروبا وأمريكا…
كان علمها هو سلاحها
كانت لوحتها هي فستانها
وكانت قصيدتها هي مكياجها..
جابت العالم شرقَه وغربَه، شماله وجنوبَه.. ولم تكن سائحة تتفرج، بل كويتيّةً.. تتعلم وتعمل، تستلهم وتبني.. وهي في الوقت ذاته تربي الأبناء.. ولا توقفها فجيعتها بابنها البكر عن ممارسة الحياة..
وكانت للتجارب بصماتها الحلوة والمرة على ذاكرة الطفلة سعاد، والشابة سعاد، والأم سعاد، والدكتورة سعاد..
لكن المعرفة تجعل الحياة أحلى وأعلى..
أما السفر.. فكان أروع قصائدها، إذ زرعها في قلب الحضارات وأنبتها في عمق التاريخ، وفتح لها باب المجد على مصراعيه..
فبالسفر تتحقق العلم وتتألق الثقافة.. وتزداد المعرفة.
والثقافة لا تأتينا بل نحن من نذهب إليها.. وعلى الفتاة أن تكسر طوق الجمود وقيود الجهل.. وتمارس حقها في الحلم..
لذلك كان السفر كتاب “سعاد” المفتوح.. وأفقها اللانهائي، فقد كسبت أجمل خبراتها من السفر، وسجلت أروع ذكرياتها في السفر، وعرفت أنبل أصدقائها في السفر..
وقفت على عادات الشعوب وتاريخ الناس المكتوب على تضاريس مدنهم وتضاريس وجوههم كانت تسافر.. وفي حقيبة قلبها الكويت لؤلوة الزمن الجميلة.. وهي تغني لها: (كم كنت يا حبيتي جميلة في زمن الأحزان).
كانت تسافر.. على جناح صقر الخليج.. الزوج والسند والحبيب والظل الظليل عبدالله المبارك..
..
سافرت سعاد إلى الحب.. ومنه جاءت إليكم..
هي تقف الآن أمامكم.. لتتلو قصائد الطهر المكتوبة في وجوهكم..
تلك هي أنا
“سعاد” التي تحبكم.. وتقول لكم.. يا أبنائي ويا أحفادي ويا نبضات قلبي.. إن وطنكم الكويت ثروته أنتم لا بحيرات النفط.. فاجعلوا من أرض البترول أرض علم وإبداع..
شكراً لكم.. أنتم أولاً فأنا بكم أكون أكثر ثباتاً وأفصح لساناً
وشكراً على كل القائمين على هذا الملتقى الحضاري
وسيكون احتفالنا القادم بإذن الله وأنتم تخطون الخطوة الأولى في الحياة العملية وتساهمون في بناء الوطن..
..
فمن منكم يحب أن يكون مثل الفتاة التي حكيت لكم قصتها؟
السيدات والسادة المحترمون.
يا أطفال الكويت، يا أحبائي،
كلما نظرت في عيني طفل تحملني الأمومة إلى دنيا الحنان وعالم الأمل. وكلما داعبت أصابعي خصلة من شعر طفل تذكرت كيف تولد الحياة بكم وكيف تستمر. لقد مرت الأيام الحلوة علينا عندما كنا أطفالاً نلهو بأحلامنا، وهاهي الأيام تجيء لتعيشوا أقسى تجربة لكم حين داهمنا الغزو البربري فلم يرحم امرأة ولا شيخاً ولم يرحم الطفولة. كثيرون في مثل عمركم أعطوا حياتهم ثمناً لكلمة الحق يصرخون بها في وجه الغزاة، أو يكتبونها على جدران المنازل. لقد كنتم يا أطفال الكويت آية الرضى والعنفوان والشجاعة ولم تقصروا في واجب الوطن ساعة الشدة.
اليوم نجتمع معاً يا أحباء الكويت لنؤكد للعالم استمرار الحياة جيلاً بعد جيل وانتصار إرادة الإنسان فينا من خلالكم.
دعونا نفرح للحرية ونبدأ من جديد مسيرة بناء الكويت التي تجد حياتها ومجدها في طفولتكم المؤمنة، والطالعة على الدنيا نغماً حلواً ونشيداً للمجد لا ينتهي.