إحسان عبد القدوس ماء الحب ونار الثورة
إذا أراد تاريخ الصحافة القومية أن يسمي “صحيفة” قامت بانقلاب جذري في أعماق الوجدان المصري والعربي في الأربعينيات من هذا القرن، فإن هذا الاسم سيكون من دون شك “روز اليوسف”، فهذه المجلة التي أسستها ووجهت سياستها امرأة استثنائية في طموحها وشجاعتها ووطنيتها هي السيدة الفاضلة فاطمة روز اليوسف، كانت سيف المعارضة المصلت فوق القصر، والإنجليز، والإقطاع المصري، وكان الشعب المصري يعتبرها بوابته إلى الحرية.
وفي هذه المدرسة الليبرالية، المتمردة، التي اختارت الصدام مع المستعمر، وأدواته من طبقة الباشوات، والمُلّاك، والمستوزرين، وأذيال السلطة، ولد إحسان عبد القدوس، وورث عن أبيه محمد عبد القدوس شرارة الفن وعن أمه فاطمة روز اليوسف شرارة الثورة.
إحسان عبد القدوس هو هذا الخليط الرائع من ماء الفن وحرائق السياسة.. من جنات الحب ومن زلازل الثورة.
لم يعرف إحسان عبد القدوس في كتابته أنصاف الحلول، ولم يمسك العصا من وسطها، ولم يحترف الارتزاق الصحافي في أي يوم من أيام حياته، ولم يسقط في بئر البترو- دولار، كما سقط بعض الكتاب والصحافيين، وبقي الكاتب النقي، والنظيف، والمترفع، حتى أسلم الروح.
كانت سلطة (روز اليوسف) فوق سلطة السلاطين، وكانت حزباً أقوى من كل الأحزاب المصرية، وكانت تشكل الوزارات وتسقطها، وكان الشعب المصري يعتبر (روز اليوسف) برلمانه، ومحكمته، وصوت المقهورين، والمسحوقين، والمعذبين في الأرض، في وادي الكنانة.
بدأ إحساس إحسان عبد القدوس بالظلم الاجتماعي والسياسي منذ كان محرراً مبتدئاً في (روز اليوسف) حتى صار رئيساً لتحريرها.. وقاتل على مدى خمسين عاماً في قصصه ورواياته ومقالاته السياسية إلى جانب الإنسان، وإلى جانب العدل، والحرية والديمقراطية.
آوى إلى بيته الثائرين من أمثال حسين توفيق قاتل أمين عثمان أحد رؤساء الوزارات المصريين والمعروف بتعاونه مع الإنجليز.. وروايته المعروفة (في بيتنا رجل)، هي تسجيل لهذه الواقعة. وفضح صفقة الأسلحة الفاسدة، التي أدت إلى هزيمة الجيش المصري عام 1948.
وكان صديقاً للضباط الأحرار الذين صنعوا الثورة.. ثم وقف موقفاً معارضاً من سلبيات الثورة، وممارساتها اللاديمقراطية، فسجنه جمال عبدالناصر، ثم سجن أنور السادات ابنه، ولكنه لم يتراجع عن قناعاته ومثله العليا، ورفض أكثر من مرة المنصب الوزاري لإيمانه بأن المنصب الوزاري ليس أكثر من (رشوة) لا عمر لها.
لقد ظل إحسان عبد القدوس بعيداً عن التلوث، في مناقبه وسلوكه، وطهارة أعماقه، ولاسيما في هذا العصر العربي الذي صار فيه شراء الضمائر والأقلام، أسهل من شراء زوج من الأحذية.
لقد حاول الرجعيون والماضويون في فترة مرض إحسان عبد القدوس الأخيرة وقبل ذلك، أن يشوهوا وجهه، بتهمة الإباحية والتحلل، وفساد الأخلاق العامة، وهذا كلام أصبح بكل أسف موضة شائعة تستهدف تحطيم أجمل الرموز في حياتنا الفنية والإبداعية، وإطفاء الشموس التي أضاءت حياتنا.
مثل هذا الكلام الهابط، والساقط، والأمّي، لن يلتفت إليه تاريخ الأدب، الذي سيحتفظ بصورة إحسان عبد القدوس في صفحاته الأولى.
د.سعاد محمد الصباح