عرس مانديلا
قليلة هي في عمر الزمان تلك اللحظات التي تشع مهابة، بحيث لا يملك التاريخ غير أن يتوقف لينحني عندها إجلالاً.. وما تشهده جنوب أفريقيا الآن هو، بكل المقاييس واحد من هذه اللحظات النادرة… فحينما ارتفع شاهقاً علم البلاد الجديد منتصف ليلة الثلاثاء، اليوم الذي بدأ فيه الاقتراع بمشاركة الأغلبية السوداء للمرة الأولى، كان ذلك إيذاناً بانبلاج فجر كم طال انتظاره.. وما أروعه كان من مشهد، اختلطت فيه أهازيج النصر بدموع الفرح، التي سالت لتغسل أحزان ليالي الصبر الطويلة، ولتسكن روع جراح عهود الظلم والتيه والقهر المذل..
يرفرف علم الحرية الجديد في سماء جنوب افريقيا تتويجاً لمسيرة نضال شاق وطويل امتد لثلاثة قرون ونيف، خاضه شعب أراد الحياة لنفسه فلم ترهبه القيود، وما زاده التعسف والتنكيل إلا إصراراً وعزيمة متجددة.. شعب اختط بدمائه والتضحيات والفداء من ملاحم البطولة ما يجعل من أساطير الرومان والإغريق تتوارى وتنزوي خجلاً.. شعب وكأن الشاعر قصد أن يطوي صفحات الزمن ليعنيه بقوله المأثور:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
وفي خضم هذا العرس الإنساني الهائل تلوح صورة ذلك الرجل العملاق “نيلسون مانديلا” بقامته المديدة، وهامته التي تكاد، من فرط عزها وكبريائها، أن تناطح السحاب.. فلقد شاء الله لمانديلا أن يرث قيادة النضال ممن سبقوه من أبطال حملوا مشاعل الحرية، فما خان الأمانة، بل رهن حياته ومستقبله وأحلى سنوات عمره لقضية شعبه، وارتضى التضحية بكل غال من أجل أن يأتي ذلك اليوم الذي تنضو أمته فيه عن عنقها سيف العبودية، وتحطم أغلالها، مستنشقة عبق الخلاص ونسائم الحرية بأريجها الفواح.. في غياهب السجن، الذي أفنى فيه زهرة شبابه، استعصت إرادة الرجل على صلف السجان، فإذا بالأخير هو السجين، وإذا بالراسف في أغلاله رمز ألهب صموده مشاعر الأحرار في كل مكان، فاتسعت حلقت النضال لتحاصر النظام العنصري البغيض فتجبره على التراجع والخضوع لحتمية التاريخ.. ومثلما كان الرجل عظيماً في سجنه، فإنه قد أثبت أنه من طينة أخرى، ونمط فريد من الزعامات، حينما عكف بعد الإفراج عنه، على عمل دؤوب، على نشر رايات التسامح مناشداً شعبه أن يتسامى فوق جراحات الماضي، وأن يتجاوز مشاعر البغضاء والانتقام، من أجل بناء أمة جديدة قوامها الوحدة المبنية على العدل والمساواة والسلام.. وها قد تحقق للزعيم النادر “مانديلا” ما أراد إذ نجح عبر حنكته وشفافيته ومثالية منقطعة النظير في قيادة سفينة التحولات الكبرى إلى مرافئ الأمان برغم كل الألغام والمطبات والدوامات الخطرة.. وإن كان هنالك من يشكك في مصداقية ما يمكن أن يتحقق من استقرار في جنوب افريقيا بعد انتقالها إلى حكم الأغلبية السوداء، فإن مجرد الإحساس بوجود زعيم مثل “مانديلا” وبوجود أعوان له ممن تشربوا بأفكاره ومبادئه وقيمه السامية، لكفيل ببث الاطمئنان على مستقبل التجربة.
التحية لجنوب أفريقيا في ميلادها الجديد، ومرحباً بها في صفوف الأمم والشعوب الحرة، والانحناءة لنيلسون مانديلا، رجل هذا العصر، وأعظم قدوة يمكن أن يقتدي بها الزعماء.
د. سعاد محمد الصباح