عن الأستاذ.. غسان تويني
نحن في العام 1960.. وها هي بيروت تمتد أمام عيني: جزيرة من اللؤلؤ الأخضر تقاربها زرقة لم يسبق لي أن عرفت مثيلاً لها، على امتداد الطيف. صحيح أن كل البحار مكسوة بطبقة من هذا اللون ولكن زرقة البحر في بيروت كانت لوناً آخر، تحكي تجاعيده البيضاء عن ثورة فيه يعلنها الماء على اليابسة، دون أن يغرقها.
إلى هذه المدينة جئت للمرة الأولى بصحبة زوجي الشيخ عبد الله مبارك الصباح، والذي كان من اوائل من عاتق بحر بيروت وجهه، هذا القادم مرات ومرات من أرض الكويت إلى لبنان، حيث يلتقي الرمل بالبحر في ثنائية الحياة الجميلة.
ويبدو أن بيروت قررت خطفنا، لذلك فان دارتنا البحرية على الرملة البيضاء تحولت إلى منتدى ينضم إليه في كل عشية صوت جديد من أصوات السياسة والفكر والاعلام. كانت بيروت تفور بالابداع في كل منحى: من التجارة إلى التعليم إلى العلم فالسياسة والصحافة والفنون. كانت بيروت تعمد روحها في بحر العطاء لتصبح، وفي أعوام قليلة، عاصمة عربية نادرة الملامح وشديدة التميز فيما بدا لي يومها أن جنيه البحر قد غرقت في روحها فأعطتها زاد التفرد وشكل الايقونة.
كان لبنان يخرج من محنة، سرعان، سرعان ما تعلمنا معها أن هذا المولود الخارق الإرادة قادر على كسر رخامة القبر. وتمر الأيام، سنوات عجاف هي وسنوات رخاء وهناء هي، ويظل لبنان نشيداً عالياً في حنجرة زمانه.
بعض هذا النشيد وأعظم ما فيه، هيبة العقل. وبعض هذه الهيبة كانت الجامعات والكليات والمؤسسات وفي طليعتها صحافة تؤكد للبنان أولاً حقه في حياة أفضل وتؤكد للعالم أن هذا المولود قد عبر تجربة البقاء الإغريقية، فبقي حياً رغم ثلوج القمم، لم تفتك به العاصفة ولن يقتله الاعصار.
في هذا البلد تعرفت إلى إول دروس الحق والخير والجمال: فكراً في حالة صراع دائم، وحيوية لا تهدأ في السعي من أجل بناء وطن وإنسان. وفي هذه المعركة التي لم تنته ولن تنتهي، كانت الصحافة اللبنانية مسرحاً ملتهباً للكلمة، بالحوار تقول وله تدعو، حتى وإن اختلفت اللغة، سمواً وهبوطاً. وفي هذا المصهر، قرأت غسان تويني لسنين وما زلت أفعل. وكنت دائماً أعجب من أمرين: التزام بالأسس فلا خروج عن معتقد ولو بعد خمسة بل ستة وأربعين من الأعوام.
هذا أولاً:
الثاني: هذا الثراء اللغوي، يكسره حين يشاء دون أن تملك حق محاكمته.
غسان تويني: الانسان الخارج عن كل القوانين هو هذا الذي عرفناه بالأمس، ونعرفه اليوم أكثر، وغداً أكثر وأكثر.
غسان تويني هذا المعجون بالثورة، ولو على نفسه، وبالحرية ولو ذبحته، وبالديمقراطية ولو أمسك بها بماء العين.
غسان تويني الذي يقرأه عشرات الألوف كلما كتب ويعرفه قارئوه فيحبونه بالاتفاق أو بالاختلاف مع صوته.
غسان تويني هذا صانع صحافة يحق له فيها أن يدعي إمامة الكلمة الجديدة، الكلمة – النار، الكلمة – الطريق . .
الكلمة الباقية على مر الأيام والسنين والأزمنة التي يؤرخ لها وتؤرخ حضورها.
غسان تويني ” الأستاذ ” الذي استحق لفبه بالممارسة وبالعمل هو من يستضيفنا في هذا الكتاب، إذ نستضيفه، لنصبح كلنا ضيوفاً على لبنان – الكلمة الحق – التي تزهو بمبادئها وتكبر في وجه كل من يحاول وأدها، وتنتصر على الشر بخيرها المتولد من نارها.
إلى ” الأستاذ ” هذا الكتاب من مؤمنة بالله وبالكتاب وبالحرية وبالكلمة المقاتلة في سبيل الحق والمعرفة والإنسان.
د. سُعَاد محمّد الصّبَاح
الطبعة الأولى 2007