أيها الأصدقاء الزملاء..
ما كنت أتنبأ -أنا الكويتية العربية- أن أقف ذات يوم أمام اتحاد المحامين العرب، بصفتي مدعية، وشاكية، ومعتدى عليها..
ثم ما كنت أتنبأ، ولا كان في مقدور أي عراف أن يتنبأ، أن المدعى عليه، الذي أرفع عليه قضيتي، وأطلب منكم إدانته جزائياً وقومياً وعربياً، هو واحد من أبناء عمومتي.. وأنا التي طالما ساهمت بفكري وجهدي من أجل الدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وللمرة الأولى في تاريخ علاقاتي العامة أدخل على زملائي من المحامين والمفكرين والمثقفين، وأنا لا أحمل ابتسامتي كما تعودت، وإنما أحمل ملف أحزاني، وأحزان الوطن الكويتي المقهور.
الملف الذي أحمله ليس ملفاً شخصياً.. وإنما هو ملف وطن صغير، هو في طريقه إلى المحو والاستئصال والإلغاء بحجة أنه خطأ تاريخي وجغرافي.. وزائدة دودية لا تنفع ولا تضر.
وإذا قبلنا هذا المنطق الجراحي أو البيطري في إلغاء شعب بكامله بضربة مبضع.. فإن هذا العالم سوف ينتقل من حكم القياصرة إلى حكم البياطرة، وتصبح غرفة العمليات هي المكان المناسب لتقرير مصير الشعوب.
وإذا كانت النظرية القومية تقرر أن الشعب الكويتي شعب لا لزوم له.. فإن عشرات بل مئات الشعوب الأخرى ستدخل أيضاً في كتاب (لزوم ما لا يلزم) لأبي العلاء المعري، وتصبح جغرافية الكرة الأرضية بيد المغامرين وقطاع الطرق.
وأود أن أسألكم، وأنتم أساتذة القانون في وطننا العربي، من هي السلطة القانونية التي تقرر أن هذا الشعب لازم.. وهذا الشعب غير لازم؟
إذا كانت الدبابة هي التي تقرر ذلك.. فإنها ستكون فاجعة الفواجع، لأن الدبابة هي أمية بطبيعتها، ولم يسبق لها أن درست القانون، أو مارست المحاماة، أو دخلت في سلك القضاء.
الدبابة تبقى دائماً دبابة، ومهمتها الرئيسية هي أن تطحن عظام الشعوب، وتطحن إرادتها.
الدبابة قد تقود انقلاباً، أو تصدر البلاغ رقم 1، ولكنها لم تقرأ كتاباً واحداً في الفقه الدستوري، أو في الفقه الروماني، أو في القانون الدولي.
والذي يدعو إلى السخرية أن ترى دبابة تلقي عليك درساً في القومية العربية، ووحدة الدم واللغة والدين والمصير، وتتعامل معك على الطريقة النازية أو الإسرائيلية في نسف البيوت، وتفريغ الأرض من سكانها، واستيراد سكان جدد بدلاً عنهم.
وإذا كان الغزاة العراقيون لم يستعملوا أفران الغاز حتى اليوم مع الشعب الكويتي، فليس لأنهم يخافون الله، أو عقوبات الأمم المتحدة، بل لأن مهندسيهم لم يكتشفوا أفران الغاز بعد.
هذا هو كتاب الوحدة الذي قرأناه في الكويت في الثاني من شهر أغسطس 1990.
وما جرى في الكويت تحت الاستعمار العراقي هو نموذج حرفي ومنقول عن الممارسات النازية في دول أوروبا الشرقية.. والممارسات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة..
ولا تؤاخذوني إذا وصفت لكم الكتاب بأنه كتاب بوليسي إرهابي دموي.. يشبه إلى حد بعيد قصص أغاثا كريستي ومسلسل دراكيولا..
فهل هذه هي الكتب الأيديولوجية التي سنطلب من أولادنا أن يقرؤوها؟
إن الأطفال الكويتيين اليوم يبحثون في منافيهم عن مدرسة تقبلهم في العام الدراسي الجديد، فتقفل في وجوههم الأبواب..
فكيف سنقنع هؤلاء الأطفال بوحدة اللغة والدم والمصير.. بينما هم بغير لغة وبغير مصير؟
إنني أرجو ألا يفهم كلامي أنني كفرت بوحدة العرب، أو بقدرتهم على الالتقاء بشكل من أشكال العقلانية، فالكويتي على رغم مرارته واكتئابه وإحباطه الشديد لا يزال مشدوداً إلى المثل الأعلى، والحلم الكبير.
ولكن الوحدة التي مورست على الشعب الكويتي لا علاقة لها بالحلم، ولا بالمثل الأعلى، ولا بأي مبدأ من مبادئ الأخلاق.
إنها وحدة قهر وإذلال، وإلغاء لشعب بكل مقوماته وخصوصيته وشرائحه الاجتماعية.
وإذا كان الولد قد عاد أخيراً إلى حضن أمه –كما تقول أجهزة الإعلام العراقية- فإنه لا توجد أمٌّ في الدنيا، تعمد إلى سرقة حليب أطفالها، وتغيير أسمائهم، وتجريدهم من ثيابهم..
هذه أمومة كاذبة.. وحنان كاذب.. ووطنية كاذبة.
أيها الزملاء الأساتذة..
إن أي زواج في العالم لا يقوم على التقاء روحين وجسدين ورغبتين وإرادتين.. هو زواج فاشل، وانتحاري، ومصيره الطلاق.
والنظام العراقي، مع الأسف الشديد، حمل إلينا عقد الزواج والمأذون على ظهر دبابة.
لذلك كفر الكويتيون بهذا الزواج السياسي الفظ.. وهربوا من بيت الزوجية، تاركين وراءهم الجهاز، الذي وضع العريس يده عليه، وشحنه إلى بغداد.
أيها الأصدقاء والزملاء..
لأنكم أهل العدالة والقانون والفكر، وأهل الحق والحقيقة.. أرجو أن تدرسوا أزمة الخليج دراسة ميدانية لا نظرية، فما جرى على أرض الكويت هو من البشاعة بحيث لا يمكن لأية نظرية أو أيديولوجيا أن تبرره أو تتستر عليه.
وبكل صدق وموضوعية وتجرد، أقول لكم إن ما جرى على أرض الكويت هو عمل تخريبي.. لا عمل توحيدي، عمل مبني على العصابية والنرجسية وعبادة الذات، أكثر مما هو مبني على قرار المؤسسات الديمقراطية والشعبية.
ولأنني قومية وعربية ووحدوية الجذور.. أرفض الخلط الغوغائي بين التوحيد والتخريب، فقتل الكويت على هذا النحو الاعتباطي والفردي والفاشستي لا علاقة له بالقومية أو بالعروبة، ولا بالفكر الوحدوي.
يا أصدقائي وزملائي..
الملف الذي أحمله طويل، ولكنني أشفق عليكم من قراءة كل تفاصيله ووقائعه..
كل ما أود أن أقوله لكم، وأنتم تناقشون في ندوتكم (أزمة الخليج) أن تتذكروا أن مهنتكم كمحامين عرب ومثقفين وطليعيين ورواد فكر.. ألا تتركوا القتيل ينزف على الأرض، وأنتم مشغولون عنه بالتنظير والخطابة، والمرافعات البلاغية الطويلة.
البلاغة مؤجلة، والفصاحة مؤجلة، وقصائد الرثاء مؤجلة.. فما نريده منكم، وأنتم رجال شريعة وقانون، ورجال فكر وثقافة، أن تعطونا تقريراً طبياً مفصلاً.. يذكر لنا كيف مات القتيل.. ومن قتل القتيل؟
إن الجريمة يا حضرات الأساتذة ليست معقدة ولا غامضة، ولا مر عليها الزمن، فمرتكب الجريمة معروف، وأدوات الجريمة موجودة، ومكان الجريمة معروف.. وهو دولة ديمقراطية صغيرة اسمها الكويت.
أيها الزملاء والأعزاء..
قبل أن أترككم للتشاور فيما بينكم وتقديم تقريركم إلى هيئة المحكمة.. أدعوكم كمحامين ومفكرين وطليعيين ورواد فكر إلى أن نضع معاً الأسس، ونرسي المبادئ في عقد اجتماعي عربي لنظام عربي جديد، لا تتجزأ فيه المبادئ، ولا يضحّى بقضية مدنية من أجل قضية مصلحية.
إن المبادئ لا تتجزأ، والعدالة لا تتجزأ، والحرية لا تتجزأ.. وفي محفل يرعاه اتحاد المحامين العرب أطلق هذه الصرخة من أجل الحق والعروبة.
أيها الأصدقاء الأصدقاء..
أود أن أتوجه إلى مصر العدالة، ومصر الديمقراطية، ومصر الرجولة والشهامة والمثل العليا.. بأعمق مشاعر العرفان والحب والتقدير.. باسمي وباسم الشعب الكويتي في الوطن والمنفى، على مواقف الشرف التي وقفتها من قضيتنا العادلة، ومواقف مصر هذه ليست جديدة، فهي تأكيد جديد على أصالة مصر، وعمق أبعادها الإنسانية والحضارية.
كما أقدم أعمق الشكر لاتحاد المحامين العرب، الذي دعا إلى هذه الندوة في مثل هذه الأيام المتفجرة، مؤكداً بذلك حرصه على أن يبقى الحق دائماً متوهجاً ومضيئاً، وألا تدفن أزهار الحرية والديمقراطية في رمال اللامبالاة.
[1] ندوة اتحاد المحامين العرب عن أزمة الخليج 14/10/1990.