اغتصاب التاريخ
إذا كان الاغتصاب الجغرافي لشعب من الشعوب يمكن تبريره أو تفسيره، فإن الاغتصاب التاريخي للشعوب، هو نوع من المقامرة الفاشلة، والجرائم المستحيلة.
اغتصاب الجغرافيا هو اغتصاب أرض وحجارة.
أما اغتصاب التاريخ فهو اغتصاب للإنسان بكل امتداداته الروحية والحضارية والقومية والدينية والثقافية.
والاغتصابات الجغرافية كثيرة جداً في العصور القديمة.. وسرقة الأرض كانت إحدى هوايات المغول، والتتار، والبرابرة، والهكسوس، والفايكينغ، والرومان، والإغريق.
وابتداء من القرن الخامس عشر، كان اغتصاب العالم جغرافياً على يد الإسبان، والبرتغاليين، والهولنديين، والإنجليز، والفرنسيين، والطليان، روتيناً رسمياً، وجزءاً أساسياً من إستراتيجية الإمبراطوريات القديمة، للحصول على مزيد من المواد الأولية، والتحكم بالطرق التجارية للعالم..
كانت الاغتصابات الجغرافية العسكرية في القرون الماضية، تمر بيسر وسهولة، وكان التفوق العسكري للدول الاستعمارية يتيح لها عن طريق أساطيلها الجبارة أن تقتسم فيما بينها ثروات القارتين الإفريقية والآسيوية دون مقاومة تذكر..
ولكن الاغتصاب التاريخي للشعوب ظل صعباً بل مستحيلاً، ولم يستطع الاستعمار القديم أن يكسر الروح الأفريقية والآسيوية، رغم مرور مئات السنين على وجوده فيها.
وهكذا احتلت بريطانيا الهند عسكرياً، ولكنها لم تستطع احتلال الروح الهندية، واحتلت فرنسا الجزائر عسكرياً، ولكنها لم تستطع أن تحتل النفس الجزائرية.
واحتل نابليون مصر، ولكنه لم يستطع أن يطفئ شمس مصر، أو يلغي نهر النيل. ونهش هتلر قطعاً من جسد النمسا والمجر وتشيكوسلوفاكيا.. ثم مات منتحراً. واحتل ستالين أوروبا الشرقية، وسحق شعوبها بدباباته، على مدى خمسة وأربعين عاماً، ثم رجع إلى موسكو بخفّي حُنَين.. مضروباً بأحذية الشعوب..
واحتلت الإمبراطورية الرومانية نصف العالم، ولكنها لم تستطع أن تجعله يتكلم اللغة اللاتينية.. ويتذوق (السباغيتي).
واليوم يحاول صدام حسين، أن يلعب بالتاريخ على هواه، فيغير مرة حدود الكويت، ويغير مرة اسمها، ويغير مرة ثالثة تشكيلها الديموغرافي؛ فينقل الكويتيين كما تنقل أكياس البطاطا إلى العراق، ويستورد مواطنين عراقيين بسيارات الشحن، كرؤوس البطيخ، ليزرعهم في السالمية والجابرية والفحيحيل، ويحرق السجلات المدنية، وشهادات ميلاد الكويتيين، وعقود زواجهم، وجوازات سفرهم، وشهاداتهم الجامعية، وسنداتهم العقارية.. ويحولهم إلى شعب من الهنود الحمر..
وباختصار، يتصور الرئيس العراقي أن بإمكانه أن يشنق التاريخ، كما يشنق معارضيه، وأصدقاء طفولته، ورفاقه في الحزب.. ثم يدخن سيجاره..
وهو يتصور أنه إذا هدم مستشفيات الولادة.. وأحرق شهادات الميلاد.. وقتل أطباء التوليد والممرضات.. بأن الكويتيين لن يتزوجوا.. ولن ينجبوا.. ولن يتكاثروا.. وأن أرحام الكويتيات سوف تتوقف عن العطاء والإخصاب.
وهو يتصور أنه إذا أحرق سجلاتنا المدنية، فسوف نصبح أولاداً غير شرعيين، ونضيع أسماءنا، وألقابنا.. وملامحنا.. ولون بشرتنا.. وسواد عيوننا.. ونضطر للجوء إلى ملاجئ الأيتام.
وهو يتصور أنه إذا سرقت نقودنا ومدخراتنا وأثاث منازلنا، فسوف نقرفص أمام أبواب المساجد مع أطفالنا.. لنستجدي الصدقة من العابرين..
وهو يتصور أنه إذا سُرقت الساعات من معاصمنا، فسوف يتوقف (الزمن الكويتي) عن الدوران.. دون أن يعلم أن الكويتي حيث كان يستطيع أن يخترع زمنه.
وهو يتصور أن الذاكرة الكويتية سوف تضعف وتتلاشى مع الأيام، وأن أبراج الكويت ستصبح كالآثار القديمة يتفرج عليها السياح، ويأخذون أمامها الصور التذكارية.. دون أن يعرف أن القتيل يحمل في عينيه صورة قاتله إلى يوم القيامة.
وهو يتصور أن مراسيم الضم والإلحاق، وتحويلنا إلى المحافظة التاسعة عشرة في إمبراطورية ميشيل عفلق هي قوانين إلهية.. دون أن يدري أن كل المراسيم التي أصدرها سلفه نبوخذ نصر غرقت.