الخارجون من التاريخ
1
في حين تتجه شعوب العالم إلى العيش المشترك (داخل التاريخ) يتجه العرب بحركة معاكسة، وبإصرار لا شبيه له (للخروج من التاريخ).
في حين تحاول أمم أوروبية وأمريكية متعددة الأصول، والتاريخ، واللغات، والثقافات، والحضارات، أن تصبح (أمة واحدة).. تحاول أمتنا العربية ذات الأصول والتاريخ والطبائع، والثقافة، والحضارة..الواحدة أن تبقى مجموعة من (الأمم والقبائل)، يذبح بعضها بعضاً، ويقتلع بعضها بعضاً.. و(يلغي) بعضها بعضاً..
بعد ميثاق باريس للأمن والتعاون الأوروبي الموقّع بتاريخ 21 نوفمبر 1990، سوف تنهار الحدود السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والنقدية والثقافية لأوروبا، وتتحول أوروبا إلى شارع واحد.. بل إلى بيت واحد.. يسكن فيه الأوروبيون، تحت سقف الحرية، والديمقراطية، والتعاون، والمصالح الاقتصادية المتبادلة.
ميثاق باريس التاريخي، ألغى الحدود، وألغى الحروب، وألغى الأسلحة وألغى العدوان، وانتقل من (مجتمع حربي) يتعامل بالصواريخ، والقنابل النووية، والتعصب الأيديولوجي، إلى (مجتمع حضاري) يحل مشكلاته بالحوار العلمي، والرأي الحر، والمصلحة المشتركة، والفكر البراغماتي.
ميثاق باريس التاريخي بتاريخ 21 نوفمبر 1990، هو أهم وأخطر انقلاب في تاريخ الفكر الأوروبي، إذ اكتشفت به أوروبا عبثية الحروب، والنزاعات المسلحة، والمطامع التاريخية والجغرافية، كما اكتشفت بعد خروجها من حربين عالميتين مدمرتين، أن الديمقراطية هي الحل الوحيد لقضايا هذا الكوكب، وأن حرية الإنسان هي الشجرة الدائمة الخضرة على أرض هذا الكوكب.
الماركسيون تنازلوا عن ماركسيتهم، واللينينيون تنازلوا عن لينينيتهم.. والماديون تنازلوا عن ماديتهم.. والبرجوازيون تنازلوا عن برجوازيتهم.. واليمينيون تنازلوا عن يمينهم.. وتوصل المجتمعون في باريس إلى معادلة تسمح للجميع بأن يجلسوا معاً على بساط السلام، وأن ينزعوا من رؤوسهم نهائياً فكرة التدمير والخراب الجماعي، ويستبدلوها بفكرة تأسيس نظام عالمي جديد يكون الإنسان الحر فيه مركز الدائرة وحجر الأساس.
2
في الجانب الآخر من المشهد، تبدو الأمة العربية.. وكأنها دخلت في مرحلة (الكوما)، فهي لا ترى.. ولا تسمع.. ولا تقرأ.. ولا تشعر بهذا الزلزال التاريخي الكبير الذي يهز أعمدة العالم القديم..
في الجانب الآخر، تقف (الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة).. في حالة موت غير معلن.. فلا أحاسيسها الخمسة تشتغل.. ولا (هوائياتها) تلتقط الإشارات القادمة من المستقبل.. ولا عقلها قادر على أن يستوعب النبوءات التي يحملها القرن الحادي والعشرون.
(الفكر القبلي) ما زال بصحة جيدة.. والقبائل لا تزال تتقاتل على الماء والكلأ.. والجاهلية لا تزال ترفض أن تغادر خيمتها.. لتشاهد ما يجري في مجلس العموم البريطاني.. أو لتقرأ عنوان جريدة (الإندبندنت).. على أضعف الإيمان..
نحن في مرحلة انعدام الوزن تماماً.. ننفعل ولا نفعل.. ونتفرج على ما يجري في مسرح السياسة الدولية، كما يتفرج القروي على مسرحية لصاموئيل بيكيت..
هناك في باريس يلغون الحروب.. ونحن نتلذذ بإشعالها..
وهناك في باريس يقررون إلغاء الحدود الجغرافية والاقتصادية فيما بينهم.. ونحن نكدِّس على حدودنا المتاريس وأكياس الرمل..
وهناك في باريس يقيمون صرح الديمقراطية.. ونحن نقيم صرح الديكتاتوريات والحكم الفردي..
وهناك في باريس يعتبرون الإنسان ثروة حضارية عظيمة.. ونحن نعتبر الإنسان حذاء قديماً..
هناك في باريس يذهبون بطائرة (الكونكورد) إلى القرن الواحد والعشرين.. ونحن نرجع على حمارة عرجاء إلى القرن العاشر..
3
إن من يتتبع ردود فعل الأنظمة العربية تجاه ما يحدث على خريطة العالم، ولا سيما الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، يتأكد من شيئين؛ أولهما أن العرب لا يقرؤون التاريخ، أو أنهم موجودون خارج التاريخ..
أحد الحكام العرب سئل عن رأيه في البريسترويكا السوفييتية، فقال: البريسترويكا هي من صنعنا نحن.. ونحن نعتبر أنفسنا أساتذة الاشتراكية في العالم.. والرفيق لينين مولود عندنا..
وحاكم عربي آخر، سُئل عن الدروس التي يمكن أن يتعلمها العرب من الثورة الشعبية التي قوضت أركان الديكتاتوريات في دول أوروبا الشرقية.. فقال: هذا لا يمكن أن يحدث عندنا.. لأن الحكم عندنا من الشعب وللشعب، ونظامنا ديمقراطي مئة بالمئة.. والحرية كالخبز في متناول جميع المواطنين.. فعلى أي شيء يثورون؟
وحاكم عربي ثالث سئل، لماذا يسمح برفع تماثيله وتعليق ملايين النسخ من صوره في كل الشوارع، والميادين والمطارات، والمدارس، والجامعات، والدوائر الرسمية، وعلى كل الباصات، وسيارات الأجرة؛ فأجاب بابتسامة نرجسية: وماذا تريدونني أن أفعل.. إذا كان الشعب يعشقني؟
تلك عينات من الأجوبة الفهلوية والعبقرية، واللمّاحة التي يعبر بها بعض حكامنا عن انطباعاتهم الأولى أمام التغيرات التاريخية المثيرة التي هزت القارة الأوروبية.
وهذه الأجوبة، إذا دلت على شيء، فإنما تدل على أن كثيراً من أنظمتنا أنظمة إلهية معصومة من الخطأ.. وأنها ليست مستعدة لأن تتعلم شيئاً.. أو تستشير أحداً.. أو تستفيد من تجارب الشعوب الأخرى، ومن ثقافتها السياسية.. ولقد دفعنا، ولا نزال ندفع ثمناً باهظاً لغياب الديمقراطية، فالأنظمة الفردية لم تحمل لنا إلا الخراب والانحطاط والهزائم الكبيرة..
إن أسوأ ما في الأنظمة الفردية، أنها لا تصدق إلا نفسها، ولا تثق إلا بتقارير مخبريها وشرطتها السرية..
والأنظمة الفردية، عبر التاريخ، هي التي أشعلت الحروب الكبرى، وأحرقت المدن، ودمرت الحضارات..
وليس احتلال الكويت على هذا الشكل العشوائي، والوحشي.. والسادي.. سوى إفراز كيميائي للأنظمة الفردية التي تحكم بغير جذور شعبية أو ديمقراطية أو دستورية..
4
إن الفكر النرجسي العربي هو أساس كوارثنا القومية، فنحن لا نستطيع أن نعمل على شكل (فريق)، أو مجموعة، أو شركة، أو اتحاد، فالجامعة العربية، منذ تأسيسها عام 1945، لم تكن أكثر من فندق كبير، يسكن فيه اثنان وعشرون نزيلاً.. لا يكلمون بعضهم، ولا يرون بعضهم إلا في غرفة الطعام..
وعندما ذهبنا إلى الأندلس فاتحين، طاب لنا المقام، والخضرة، والماء، والشكل الحسن، فانفصلنا عن مركز الخلافة في دمشق، ووضع كل قائد عربي يده على مدينة من مدن الأندلس، ورفع علمه فوقها، وتوزع ملوك الطوائف جغرافية الأندلس، فهذا أخذ غرناطة.. وهذا أخذ قرطبة.. وهذا أخذ إشبيلية.. وهذا أخذ طليطلة.. ولم يأت عام 1492 ميلادية حتى جاء الملوك الأسبان بقيادة فرديناند وإليزابيث، وكنسوا ملوك الطوائف ملكاً ملكاً..
5
ولا بد أن نعترف أن فكرة (الدولة) عندنا لا تزال فكرة غيبية وهشة، فالدولة كانت في أغلب الحالات ميراثاً شخصياً، أو عائلياً، أو دينياً، أو عسكرياً، أو انقلابياً..
وبرغم أننا نعيش منذ مئات السنين، في مدن كبيرة، لكننا لم نستوعب حتى الآن فكر المدينة، وقوانين المدينة، وتنظيمات المدينة.. ولا نزال نواجه قضايانا السياسية، والاجتماعية والدولية بمنطق البادية وشرائع البادية.
والغزو العراقي للكويت لا علاقة له ببغداد العاصمة التي شهدت حضارة ما بين النهرين، ولا علاقة له بحضارة العباسيين ولا الآشوريين، ولا الكلدانيين، ولا البابليين، ولا السومريين، وإنما هو عمل عشائري صرف، قام به شيخ عشيرة عراقي يخيط ثيابه لدى بيار كاردان، ويشتري ربطة عنقه من عند (لانفان) في باريس.
الهجمة العراقية على الكويت، ليست هجمة على الماء.. لأن لدى العراق دجلة والفرات.. وليست هجمة على الزرع.. لأن لدى العراق نخلاً كثيراً.. وليست هجمة على النفط.. لأن الاحتياطي النفطي العراقي من أكبر احتياطيات النفط في العالم، ولكنها هجمة رجل وجد نفسه فجأة عاطلاً عن العمل، بعد أن انتهت الحرب العراقية الإيرانية، واكتشف أن لديه مليون جندي ليس لديهم ما يعملونه في العراق سوى الجلوس في المقاهي.. أو القيام بانقلاب ضد النظام..
إن احتلال الكويت هو عمل من أعمال رجل لا يستشير إلا نفسه، ولا يفكر إلا بمجده الشخصي.. أما حرق نصف إسرائيل فهو ليس أكثر من حقنة مورفين لتخدير الشارع العربي.
6
العالم يزداد تلاحماً، وتداخلاً، وانصهاراً.. ونحن نزداد نرجسية، وأنانية، وعزلة، وتقوقعاً..
ألمانيا الاتحادية تحتضن مارك ألمانيا الشرقية، وترفع قيمته حتى يصير معادلاً لقيمة المارك الاتحادي، والنظام العراقي بعد غزو الكويت، يحول الدينار الكويتي إلى قصاصة جريدة قديمة. الاتحاد السوفييتي ينسحب من أفغانستان مع الاعتذار.. والجيش العراقي يلتهم دولة الكويت في صبيحة الثاني من أغسطس 1990 كأنها بيضة مسلوقة..
مارغريت تاتشر استقالت من رئاسة حزب المحافظين ومن رئاسة الوزراء في بريطانيا لتفسح المجال أمام أصحاب الرأي المخالف حتى يتسلموا مقاليد السلطة.. ونحن نتمسك بالسلطة بأيدينا وأرجلنا.
الطاغية تشاوشيسكو، رماه الشعب اليوناني في مزبلة التاريخ، في حين يتصور الطغاة العرب أن بوخارست بعيدة جداً عن قصورهم المحروسة جيداً.. وأن الدهاليز التي حفروها تحت الأرض سوف تطيل أعمارهم..
الإمبراطور بوكاسا أكل نصف أطفال المدارس في أفريقيا الوسطى، لأنه كان يحب لحم التلاميذ، ولحم الحرية، ولكن شعب أفريقيا الوسطى، سوف يظل وراءه حتى يحول جثته الضخمة إلى طعام للغربان..
7
العالم كله بعد ميثاق باريس التاريخي يسير باتجاه الديمقراطية، والحرية، والسلام، ونحن بكل أسف لا نسمع صفير القطار، ولا نكترث بسرعته الجنونية..
إننا نجلس على قضبان السكة الحديدة كالمسطولين، دون أن ندري أن قطار القرن الواحد والعشرين سوف يطحن عظامنا إذا بقينا على غفلتنا وغيبوبتنا.
ففي عالم يتجه نحو الديمقراطية، لا مكان للأنظمة الأوتوقراطية، وفي عالم يتجه نحو تدمير أسلحة القتل الجماعي، لا مكان لرؤساء المافيات، والعصابات، وقطّاع الطرق.
وفي عالم يؤمن بالحوار الحضاري، لا مكان للملاكمين ولاعبي الكاراتيه.
وفي عالم جديد ينحني أمام حرية الإنسان، لا مكان فيه لأي نظام يقهر الإنسان، ويستعبده، ويحوله إلى فتافيت إنسان.
8
إن ديكتاتورية الفرد، وحكم الشخص الواحد، يتساقطان في كل مكان في العالم، والشعوب لم تعد أغناماً تساق إلى الذبح وهي خائفة من جزارها.
التحولات التي قلبت المفاهيم والأيديولوجيات والأفكار الخاطئة يجب أن تحولنا..
كل شيء يتحرك من حولنا ونحن واقفون.. وكل شيء يستيقظ ونحن نائمون.. وما لم ندخل (نادي التاريخ) مع الداخلين، فسوف نبقى خارج التاريخ.