بانتظار غودو
لا يزال الذين قطعوا تذاكر الدخول إلى مسرح الخليج، ينتظرون منذ شهر أغسطس الماضي، انفراج الستارة عن مسرحية (بانتظار غودو).. للكاتب الإيرلندي الكبير صاموئيل بيكيت.
وإذا كان النقاد المسرحيون قد اختلفوا فيما بينهم على هوية غودو.. ومدلوله المسرحي والفلسفي والرمزي في مخيلة الكاتب الإيرلندي، فبعضهم قال إنه المنقذ والمخلص، وبعضهم قال إنه العبث.. وبعضهم قال إنه اللاشيء.. وبعضهم قال إنه الذي يأتي ولا يأتي..
وإذا كانت هناك إشكالية حول شخصية (غودو) لدى المثقفين الأوروبيين، فإن (غودو) الذي ننتظره في الخليج لا يحتمل الرمز والتأويل والتفسيرات الميتافيزيقية..
غودو الذي ننتظره.. ليس مجهول الاسم واللقب والجنسية، بل هو أمريكي أباً عن جد..
وإذا كان (غودو) صاموئيل بيكيت.. يبقى دائماً خلف الكواليس، ولا يظهر على خشبة المسرح أبداً.. بل يبقى مجرد رمز واحتمال، فإن (غودو الأمريكي) يظهر على شاشات التلفزيون دون انقطاع، ويتكلم مع الصحافة، وله مستشارون، وخبراء، وناطقون رسميون باسمه، وأسطول إعلامي له أول وليس له آخر.
هذه الصراحة لدى (غودو الأمريكي) صراحة جميلة، ومطلوبة، وتنبع من جذور ديمقراطية أصيلة، ومنذ الفصل الأول من المسرحية وقف غودو أمام المتفرجين، وقال بصوت مرتفع:
“أنا المنقذ.. والمخلص.. ولسوف أعيد الكويت ملفوفة بشريط من القصب.. مع بابا نويل”.
طبعاً.. الكويتيون صفقوا تصفيقاً حاداً لـ “غودو”، وطلبوا من زوجاتهم أن يحزمن الحقائب استعداداً للرجوع إلى الأندلس.. قبل كريستماس.. ونحن الآن في نهايات شهر ديسمبر، والأطفال الكويتيون يتطلعون إلى بابا نويل الجالس بردائه الأحمر، ولحيته البيضاء في واجهات المحلات الكبرى في لندن، ويسألونه: يا عمنا بابا نويل متى تضعنا في كيسك.. وتأخذنا معك إلى بلادنا؟.. فيتساقط الدمع على لحيته البيضاء.. ولا يجيب.
ربما كان (غودو الأمريكي).. معذوراً في صبره وطول باله، لأن طبيعة النظام في الولايات المتحدة ورقابة المؤسسات التشريعية والدستورية الصارمة تقيد حرية قراره، ولا تترك له إلا هامشاً ضيقاً للتصرف.
ولكن ما نأخذ على غودو الأمريكي هو الانفعال السريع، والهبوط السريع، وزئبقية المواقف.
إن الخط البياني المترجرج والمتعرج للمواقف الأمريكية منذ انفجار أزمة الخليج حتى الآن، أوقع العالم في الحيرة والشكوك ودوامة الكلمات المتقاطعة.
والذي يدعو إلى الدهشة أن العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وخروج الاتحاد السوفييتي من لعبة الأمم، وأصبح بيد (غودو الأمريكي).. بعد أن خرج (غودو السوفييتي) من حلبة المصارعة، وبالتالي فإن الملعب الدولي صار ملكاً للولايات المتحدة وحدها.. تتصرف فيه كما تشاء، ودون أي منازع.
ومثل هذا الوضع (الممتاز) و(الاستثنائي) أعطى الولايات المتحدة امتيازاً عالمياً وحصرياً (EXCLUSIVE) يسمح لها بممارسة جميع ألعاب القوى والجمباز فوق حلبة فارغة..
يضاف إلى هذا الامتياز، عشرات القرارات الدولية، وتفويض مطلق من مجلس الأمن باستعمال القوة إذ لم يستجب العراق لإرادة المجتمع الدولي..
ولكن الذي حصل أن الملاكم الكبير الذي كان يريد أن يسقط النظام العراقي بالضربة القاضية، ترك الحلبة بصورة مفاجئة ليشرب زجاجة بيبسي كولا مع طارق عزيز وزير خارجية العراق.
***
إنني لم أكن أتصور أن كل هذه الـ (أرمادا) التي تتجمع في مياه الخليج، وكل هذه البنايات البحرية العائمة، وكل هؤلاء الماريشالات والجنرالات والكولونيلات، وكل (جرذان الصحراء).. جاؤوا ليشربوا البيبسي كولا.. على شرف امرئ القيس..
ولكن مسلسل الأحداث والتصريحات، والتصريحات المضادة، والغضب والرضا، والقبول، والرياح الشمالية والرياح الجنوبية، والأمواج العالية والأمواج الواطئة، والكلام العصبي والكلام الرقيق، جعلتنا نشك بذكائنا، ومنطقنا، وفطنتنا، ونحس بأننا في حمام تركي.. طاسة باردة وطاسة ساخنة.
***
ولقد تعودنا -نحن العرب- أن نرى ظاهر الأشياء، وقشرتها الخارجية دون أن نتعمق فيما وراء الأشياء.. ودون أن ننتبه إلى ما يجري تحت أقدامنا من مياه جوفية..
إن كثيراً من الأشياء التي تجري من حولنا على مسرح السياسة الخارجية لا تدعو إلى الارتياح..
فزيارة شامير، قبل وصول طارق عزيز إلى واشنطن، غير مريحة، ولا سيما حين يؤكد شامير لمراسلي الصحف الأمريكية ووكالات الأنباء أن الرئيس جورج بوش طمأنه إلى أن قضية الخليج لن تحل على حساب إسرائيل..
كما أن لقاء شامير بإدوارد شفرنادزه، واتفاقهما على تطبيع العلاقات السوفييتية الإسرائيلية في القريب العاجل، سوف يزيل آخر العقبات في طريق هجرة اليهود السوفييت الشاملة إلى فلسطين المحتلة..
ولقد أصبح معروفاً لدينا بعد تجاربنا الطويلة أن دخول إسرائيل على الخط.. ينذر بشرور خطيرة.. وبتعقيد كل الحلول الممكنة.
وإذا كانت القضية اللبنانية بقيت بلا حل حتى الآن.. وإذا كان السلام اللبناني سوف يبقى مستحيلاً طالما أن إسرائيل مزروعة في خاصرة لبنان الجنوبية.. وإذا كان الحوار الأمريكي – الفلسطيني قد فشل فشلاً ذريعاً.. فكل هذا من بركات السيدة إسرائيل..
إن إسرائيل هي لغم موقوت مزروع تحت أي قضية عربية..
وهذا يدفعنا إلى الحذر والحيطة وإلى مراقبة تحركات المياه الجوفية تحت الأرض العربية..
***
إنني ككاتبة أستعمل حواسي الخمس، وأقرأ جميع ما يقع في يدي من كلام المعلقين والمحللين، وأتابع تقارير معاهد البحوث الإستراتيجية، واستفتاءات معهد (غالوب)..
ولكنني أعترف لكم بأنني لا أفهم في لعبة الكراسي الموسيقية، ولا أعرف شيئاً عن تحركات المياه الجوفية.. ولا أؤمن بالتنجيم في علم السياسة..
أنا، مثل الملايين من أفراد الشعب العربي الطيب، أحاول أن أفهم، وأن أستعمل عقلي لمعرفة ما يدور في رأس (غودو)..
ولكنني أعترف لكم بأنني لا أفهم كلمة واحدة من مسرحية اللامعقول، التي تعرض بنجاح كبير على مسرح الخليج..
ثم أعترف لكم بأنني بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على عرض المسرحية، وبعد أن شاهدتها خمسين مرة.. لم أستطع أن أفكك رموز اللغة التي يتكلم بها (غودو).. ولا أن أفهم ما يريد..
نحن العرب طيبون، وبسطاء، ومقتلنا يكمن في أننا نعشق الفصاحة.. ولو كانت هذه الفصاحة باللغة الإنجليزية.
ولقد كان كلام الرئيس بوش في بداية الأزمة.. قوياً، وفصيحاً وقاطعاً كالسيف.. ثم بدأ الكلام يلين.. ويشف.. ويترقرق كجدول ماء..
طبعاً أنا لست ضد الرقة واللطف والكلام الجميل، ولكن الكلام اللطيف مع خشبة.. لا يجدي شيئاً..
ثم إنني لست ضد اللجوء إلى الأقنية الدبلوماسية.. ولكن الدبلوماسية مع رجل يحمل في يده قنبلة ويهدد بتفجير العالم.. قد لا يكون السلوك المثالي..
الرئيس بوش صار يقول شعراً.. ونحن العرب ضعفاء أمام عبقرية الشعراء وإيقاع القصائد..
والذي أخشاه أن تضيع الكويت.. تحت أقدام شكسبير، وت.إس إيليوت، ووولت ويتمان.. وإدغاربو، والخليل بن أحمد الفراهيدي.
***
قد يكون للأمريكيين طبيعتهم في العمل، وقد تكون لهم إستراتيجيتهم الخاصة في النظر إلى قضايا العالم، وقد يكون نظامهم الديمقراطي عائقاً في اتخاذ القرار، ولكن الأكيد أن الديمقراطية لم تكن يوماً عثرة في وجه المواقف الصعبة.
فمارغريت تاتشر كانت رئيسة وزراء دولة عريقة في ديمقراطيتها لمدة أحد عشر عاماً، ولكنها احترفت المواجهة في القضايا العالمية.. ولم تحترف قول الشعر..
إن ثمة شواهد في التاريخ السياسي الأمريكي المعاصر، لا تدعو إلى الارتياح، وعلى رأس هذه الشواهد القضية المعروفة باسم (إيران – جيت)، والتعامل الأمريكي مع الحرب الأهلية في لبنان..
لذلك فإن على العرب ألا يضعوا أرجلهم في ماء بارد، وألا يضعوا بيضهم في سلة واحدة..
فالاعتماد الكلي والمطلق على خدمات الدول العظمى، فيه الكثير من المحاذير، لأن هذه الدول لها أهدافها الإستراتيجية والاقتصادية البعيدة، ولا تخدم أحداً مجاناً.
العرب إذن معذورون إذا تشككوا، ولقد قال الفلاسفة قديماً: إن الشك هو الطريق إلى اليقين.
وعلى العرب إذا أرادوا البقاء، أن يبقوا دائماً حذرين، ومتحفزين ومستنفرين، وأن يحاولوا قدر الإمكان أن يعتمدوا على جهدهم الذاتي، وتجميع قواهم المشتتة، ومواردهم الكبيرة، وطاقاتهم البشرية الهائلة.
قد يكون هذا الكلام كلاسيكياً، وتحصيل حاصل، وقد تكون الدعوة إلى تجمع الإخوة الأعداء دعوة رومانسية، وطوباوية لا تجد من يسمعها:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
لكن السيف المرفوع فوق رؤوسنا جميعاً.. لم يعد يسمح لأحد بأن يتسلى في عدّ نجوم السماء.. أو أوراق الشجر.. أو أرقام السيارات..
لم يعد لدينا الوقت الكافي لنحصي عدد عظام رقبتنا.. لأن رقابنا.. طائرة.. طائرة.. طائرة..
فهل سيأتي كريستماس القادم.. وأنتم بخير!!..