بعد الزلزال
في مثل هذا اليوم، قبل عام تعرض بلدي الحبيب الكويت لزلزال عنيف، لم يعرف تاريخ المنطقة زلزالاً أشد منه هولاً، وبشاعة، وتدميراً.
زلزال لئيم ضرب خلال لحظات البنية القومية للأمة العربية، وأعادنا سياسياً إلى نقطة الصفر.
زلزال غيّر تضاريس الأرض، وتضاريس الإنسان، وحول العقل العربي إلى منخل بألوف الثقوب.
زلزال غيّر قوانين البيئة، وأطفأ نور الشمس، وقتل الأسماك في خلجانها، والطيور في سماواتها، والأجنّة في أرحامها..
زلزال أخذ منّا أوكسجين الحرية، ولم يترك لنا سوى ثاني أوكسيد الكربون..
***
وإذا كانت الزلازل تقاس عادة بمقياس (ريختر)، فإن الزلزال الذي ضرب الكويت فجر الثاني من آب (أغسطس) 1990، كسر كل القوانين الجيولوجية والفيزيائية، من زلزال بومبي، إلى انفجار قنبلة هيروشيما، إلى طوفان بنغلاديش، إلى انفجار مفاعل شرنوبل.
وإذا كان بعض الزلازل يتمتع بحد أدنى من الأخلاق والرحمة والخوف من الله، فإن الزلزال العراقي الذي ضرب الكويت، لا علاقة له بأي مفهوم أخلاقي، أو حضاري، أو قومي، أو عروبي، أو إنساني.
إنه لعبة (بوكر) مكشوفة، لعب فيها الرئيس العراقي برصيد مئتي مليون ومصيرهم.. وخسر الأول والآخر..
***
ليس ثمة أوصاف، أو نعوت، أو مفردات، تكفي لوصف ما فعله النظام العراقي ببلدي.
هل أسمّي ما حدث استعماراً؟
لا.. فكلمة الاستعمار التي طالما رفضناها، وكرهناها، وقاومناها، تبدو متواضعة جداً، وبريئة جداً، ومظلومة جداً.. أمام تجربتنا مع (أبناء عمومتنا).
فنماذج الاستعمار القديمة كما عرفناها على يد البرتغاليين، والهولنديين، والطليان، والإنجليز، والفرنسيين.. كانت تعطي باليد اليمنى، وتأخذ باليد اليسرى، وتسرق ثمرة الشجرة، وتترك الشجرة.. وتأخذ نصف محصول الشاي، وتترك نصفه الآخر لشعوب المستعمرات.. وتحتكر مناجم الذهب والفضة، ولكنها لا تسرق الأساور والخواتم من خزائن النساء.. وتصطاد الأفيال والنمور، ولكنها لا تصطاد البشر.. وتأكل لحم الإنسان..
***
في اليوم الثاني من آب (أغسطس) 1990، دخل التاريخ العربي إلى ملجأ الأيتام.. وتقلص الوطن العربي ليصبح بحجم قرية صغيرة اسمها (تكريت).
في مثل هذا اليوم قبل عام تخلخلت كثير من القيم، وسقطت عشرات الأقنعة.. وتكسر زجاج العروبة ألف قطعة..
في ذلك اليوم الشديد.. تحولت (الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة) إلى فتافيت أمة.. وتحوّل مئتا مليون عربي خلال ساعات إلى متسولين على أرصفة العالم، لا يعرفون لماذا؟ ولا يعرفون إلى أين؟..
***
في الثاني من شهر آب (أغسطس) 1990..
اختلطت أوراقنا بشكل كاريكاتوري.. كوميدي.. سيريالي..
أصبح احتلال الكويت حلالاً..
وتحرير فلسطين حراماً..
تحوّل الثوار إلى صيارفة..
وتحوّل الصيارفة إلى ثوريين.
لبس العلمانيون عمامة أبي حنيفة..
وصار تشاوشيسكو خليفة على المسلمين..
نهب الاشتراكيون كل ما في الكويت من أرزاق.. من طائرات البوينغ إلى إبرة الخياطة.. إلى حاضنات الأطفال..
وتركوا فقراء العالم العربي على الحصيرة..
***
بعد مرور عام على ادعاءات (الأمومة) العراقية الكاذبة..
تتلفَّتُ (المحافظة التاسعة عشرة) إلى أمها التي تدّعي الحنان..
فتكتشف أنها هربت من الباب الخلفي بعد أن سرقت ثياب طفلتها والغطاء.. وزجاجة الحليب..
فأي أمومة نموذجية تلك التي تضرم النار في ثياب ابنتها؟ وفي ثمانمئة بئر نفط سوف تبقى مشتعلة من الآن حتى نهاية القرن؟..
هل هناك طبيب نفساني يمكن أن يشرح لنا كيف تنحرف الأمومة بهذا الشكل المَرَضي؟..
أم أن من عادة القطط المتوحشة أن تأكل أولادها؟؟..
***
إن الخراب الذي أحدثه الغزو العراقي للكويت، هو أكبر من كل الإحصاءات ومن كل التوقعات، ومن كل ذكاء الكمبيوترات..
صحيح أن الزلزال العراقي، استمر سبعة أشهر فقط.. لكن الخراب المادي والنفسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، والبيئي، الذي تركه خلفه سوف يستمر طويلاً..
وإذا افترضنا أن الركام المادي يمكن إزالته بالبلدوزر، فمن يزيل هذا الركام النفسي الهائل الذي تجمّع في أعماق النفس الكويتية؟
إنه خراب طال بجنونه، وساديته، ووحشيته كل شيء..
خراب زرع المتفجرات تحت شجرة الحياة.. فقتل الزرع والضرع والجماد والنبات.. ولوّث البيئة من شواطئ الخليج، إلى جبال همالايا.
***
لا أريد أن أفتح كتاب الأحزان..
فالشريط طويل.. طويل..
ولكنني أود أن أقول إن الكويت لم تمت، ولم تفقد إيمانها بنفسها، وبقدرتها على الخروج من بطن التنين..
إن الأحزان قد تقتل الجبناء والضعفاء والمستسلمين، ولكنها لا تقتل أبداً من يؤمنون بربهم، ووطنهم، وقدرتهم على صنع الحياة.
إن الكويتيين يولدون مرة أخرى بعقل جديد، وفكر جديد، وتصميم جديد على التحدي والمواجهة.
وإذا كان القرن الواحد والعشرون سيرتب علاقاته على أساس العلم والتكنولوجيا فيجب أن نكون متعلمين.. وإذا كان سيقيم علاقاته على أساس الواقعية فلابد أن نكون واقعيين وبراغماتيين.
وإذا كان سيقيم علاقاته على مبادئ العدل والحرية والديمقراطية فسوف نكون أول العادلين، وإذا كان النظام العالمي الجديد سيرتكز على مبدأ القوة، فلا بد أن نكون أقوياء، وقادرين على حماية أسوار وطننا.
***
لا أريد أن أفتح الحسابات السرية عن هذه السنة المضرجة بالخوف، والدم، والقهر، والموت، والجريمة..
لا أريد أن أعيد مسلسل الرعب من أوله، فهو لا يليق بقيمنا، وتاريخنا، وشمائلنا العربية.
كل ما أريد أن أقوله إنني كامرأة كويتية فخورة بهذا الصمود الخرافي الذي أظهره الشعب الكويتي في وجه غزاته، وبهذا التلاحم الرائع في نسيج المجتمع الكويتي.
ولسوف يسجل تاريخ الحرب الخليجية بكل زهو وكبرياء، أن النظام العراقي، بكل غروره وغطرسته ومخابراته وآلته الحربية الفتاكة، لم يستطع أن يجند مواطناً كويتياً واحداً يرضى أن يكون دليلاً أو عميلاً له في ممارسة احتلاله.
لم يستطع النظام العراقي بكل الدنانير، والثروات وسبائك الذهب التي سرقها منا أن يشتري رجلاً.. أو امرأة.. أو طفلاً من أبناء الكويت.. ولم يستطع أن يستأجر أحداً أو يستوزر أحداً.. أو يرتهن أحداً..
كان بإمكان مليون جندي عراقي مدججين بالسلاح حتى أسنانهم، أن يغتصبوا الأرض خلال ساعات، ولكن كان من المستحيل عليهم أن يغتصبوا الضمير الكويتي.
تلك هي معجزة هذا الشعب الصغير، المؤمن، المسالم الذي ظل محتفظاً بكبريائه، وشموخه، وأصالته، حتى انتصر..
***
بعد عام على انحسار الزلزال، تحتاج الكويت إلى عملية نقد ذاتي، وإلى مراجعة طويلة وقاسية مع النفس.
لا مكان اليوم، للتواكل، أو اللامبالاة، أو الكسل.. إن (زمان الوصل بالأندلس) قد سقط مع سقوط الأندلس، ولم يعد بإمكاننا أن ندفن رؤوسنا في الرمل كالنعام.. متناسين أن الثعلب لا يزال حياً يرزق.. ولا تزال عينه على (المحافظة التاسعة عشرة)..
لقد ارتكبنا بلا شك أخطاء، وليس عيباً أن نعترف بأخطائنا.. بل العيب أن نستمر في الخطأ..
وإذا كان للعالم مآخذ على فلسفتنا، ومناهجنا، وتصرفاتنا فيجب ألا نغلق آذاننا أمام ما يقال، فليس هناك إنسان ولا نظام معصوماً من الخطأ.
يجب أن نتعلم، ويجب أن نتغير، ويجب ألا نخاف من مواجهة المرايا ومواجهة أنفسنا..
إن التحولات التي طرأت على العالم خلال العقد الأخير، سياسياً، وأيديولوجياً، واقتصادياً، وثقافياً.. تدفعنا إلى الخروج من قوقعتنا، وأفكارنا السابقة، وخوفنا المزمن، لنصبح جزءاً من إيقاع العصر، ومتطلبات النظام العالمي الجديد.
سوف نعمّر الكويت مرة أخرى مهما طال الزمن، وسوف نجعلها جزيرة حب وواحة سلام.. ولسوف نستفيد من تجاربنا وأخطائنا الماضية، فالحياة دروس ومعارف وتجارب.. وأتصور أننا تعلمنا الدرس جيداً..