ثقافة التهريج على مسرح الخليج
أود أن أعقب هنا على مقالة أستاذنا الكبير الدكتور حسن الإبراهيم، التي كشف فيها أوراق بعض المفكرين العرب، ومواقفهم الجبانة والهروبية من أحداث الخليج، وطالبهم فيها بالانتحار، لأنهم خانوا رسالتهم الفكرية، وتخلوا عن شرف الكتابة ومناقبيتها.
والواقع أن الدكتور حسن الإبراهيم وضع يده على الجرح الذي ينزف في أعماقنا جميعاً كمثقفين ملتزمين بقضايا أمتنا وقضايا الإنسان، فأمام الخراب المخيف الذي تركه الغزو العراقي لدولة الكويت، على الخارطة السياسية والقومية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية والنفسية، للعالم العربي.. لا بد للمرء أن يتساءل: أين هم المثقفون العرب من هذا الزلزال العنيف الذي عصف بالحياة العربية، وقلبها رأساً على عقب؟
أين المنظرون والأيديولوجيون والمثاليون، الذين طالما أمطرونا بآلاف المحاضرات عن الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان؟
أين هؤلاء الذين كانوا يتباكون على مأساة الإنسان في نيكاراغوا وباناما وجنوب أفريقيا وجزر الفوكلاند وجزر الواق واق؟
أين هؤلاء من مذبحة العصر التي تعرضت لها دولة خليجية صغيرة اسمها الكويت في اليوم الثاني من أغسطس (آب) 1990؟
أين المناضلون الأشاوس الذين (فلقونا) بمواعظهم الميتافيزيقية والماكيافيلية خلال أربعين عاماً، ودخلوا عشرات المعارك الدونكيشوتية دون أن تنزف قطرة دم واحدة منهم.. أو تتكرمش قمصانهم المنشّاة وبدلاتهم المكوية؟
أين هؤلاء التقدميون الذين كانوا يضعون فوق مكاتبهم.. صور هوشي منه وتشي غيفارا وماوتسي تونغ ونلسون مانديلا.. ولا يعرفون عن شهيد كويتي، سقط وهو يرد الطغاة عن أسوار مدينته؟
فهل دم تشي غيفارا، عند بعض مثقفينا، أكثر نقاء من دم الشهداء الكويتيين الذي سقطوا تحت جنازير الدبابات العراقية؟
إنني لا أفهم كيف يمكن لمثقف عربي ملتزم أن يلبس في كل مناسبة قناعاً، ويرقص في كل عرس رقصة، فيكون أفريقياً يوم الخميس، وآسيوياً يوم الجمعة، وأمريكياً لاتينياً يوم السبت.. ويسارياً يوم الأحد.. وماركسياً في عطلة نهاية الأسبوع، ولكنه لا يكون عربياً أو مسلماً إلى في عيد الأضحى وعيد الفطر!
وباستثناء بعض المثقفين الشجعان والشرفاء، الذين لم يغيروا وجوههم ولا أصواتهم ولا مواقفهم المبدئية، فإن الباقي من المثقفين العرب جلسوا في شرفة المتفرجين في لعبة (الكوريدا) الخليجية، وقلوبهم مع الثور العراقي الهائج، لا مع المصارع الكويتي النحيل الرقيق.
بعض المثقفين العرب راهنوا على الثور لا على الإنسان، وفكروا بحساب الأرباح والخسائر، وكانوا باطنيين وازدواجيين وتجار ثقافة لا مثقفين.
المثقفون الذين أقصدهم ناقشوا كل الأمور على الشكل التالي:
إذا ربح النظام العراقي أطعمنا المنّ والسلوى.. وأنزلنا في فنادق بغداد.. وأهدى كل واحد منا سيارة.
وإذا عاد الكويتيون إلى الكويت فسوف يعفون عن خطايانا، لأن قلوبهم الكبيرة لا تتسع للحقد والضغينة.
هذا هو منطق (السوبر ماركت) الذي لجأ إليه بعض المثقفين العرب، وهو منطق لا يختلف أبداً عن منطق سماسرة البورصة، والباعة المتجولين.
إن الثقافة بمعناها الشمولي هي موقف من الإنسان في صراعه من أجل الحق، والعدل والحرية.
أي أن الثقافة لا يمكن أن تتحالف مع الشر ضد الخير، ومع العتمة ضد النور، ومع الخنجر ضد الجرح، ومع الرصاصة ضد الوردة، ومع القاتل ضد الضحية.
ثم إن الثقافة لا يمكن أن تكون محايدة في قضية كبرى كقضية الحرية، وبالتالي لا يمكن للمثقف أن يقف في نقطة الوسط بين الحرية والعبودية، وإلا تحول إلى لاعب سيرك.
وبكل أسف، لقد كشفت أحداث الخليج عن أكثر من مهرج ثقافي، وأكثر من متذبذب، وأكثر من بائع شنطة.. لم يخجلوا من الوقوف مع الباطل ضد الحق.. ومع جنازير الدبابات ضد عظام الشعب الكويتي.
وثمة مثقفون آخرون اختبؤوا في جحورهم، وامتنعوا عن الكتابة، والإدلاء بأي تصريح بانتظار نتيجة المعركة.. وعندئذ سيخرجون من جحورهم ليرشقوا موكب المنتصر بأكاليل الغار.
إن سوق النفاق الثقافي في ذروة ازدهاره هذه الأيام.