قصتي مع (آخر السيوف)
يوم طلبني الشيخ عبد الله المبارك للزواج عام 1959، كان الطلب بمثابة زلزال قوي هز أعماقي، لم أصح منه إلا بعد وقت طويل.
كان عبد الله المبارك بالنسبة لصبية صغيرة لا تزال تلبس المريول المدرسي، بطلاً من أبطال الروايات التي كنت أقرؤها.
وفي مرحلة المراهقة، ما أكثر الأبطال الذين حلمنا بهم، وتمنينا أن يخطفونا ذات يوم على حصان أبيض، ويغمرونا بحبهم وحنانهم، وكرمهم، وفروسيتهم.
ولقد كان من حسن حظي، أن فارسي لم يتأخر كثيراً.. وعندما طرق الباب.. عرفتُ أن الروايات الجميلة والمثيرة التي قرأتها في طفولتي صارت واقعاً، وأن بطلي الذي طالما استحضرته في الأحلام صار زوجي.
في البداية خفت من مواجهة البطل.. ظننت أن البطل مخلوق أسطوري لا يسمح لفتاة صغيرة مثلي أن تلامسه، أو تقترب منه، أو ترفع الكلفة بينها وبينه.
ولكنني عندما أصبحت زوجة لعبد الله المبارك، تبددت مخاوفي، وتأكدت أن البطـل.. يمكن أن يكون إنساناً كبيراً، وصديقاً كبيراً وزوجاً عظيماً، في الوقت ذاته.
قد يكون عبد الله المبارك لدى من عرفوه من الخارج، حاكماً قوياً حديديَّ المواقف في الحق، ولكنَّ الذين عرفوه من الداخل مثلي، يعرفون كم كان حنوناً، وشفافاً، ورقيق الإحساس.
من كان يصدق أن هذا الجبل الشامخ من الكبرياء.. كان يتحول معي ومع أولاده إلى ينبوع من الرقة والحنان؟
بل من كان يصدق أن هذا الرجل القوي يبكي أمام المواقف العاطفية كطفل؟
في عبد الله المبارك كانت تجتمع البداوة، والحضارة، والمحافظة والليبرالية، وقداسة الماضي، وطموحات العصر.
إن عينـه دائماً تتجه إلى المستقبل، وفكره يتأقلم بسرعة مع المكان الذي يكون فيه، فهو في الكويت كويتي، وفي لبنان لبناني، وفي سويسرا سويسري.
أهم ما في عبد الله المبارك أنه كان دائماً مع العصر، ومع الحداثة، ومع الجديد، وهذه الحداثة في فكره تركت بصماتها عليَّ وعلى أولاده.
وبالنسبة لي، لم (يُخبئّني) عبد الله المبارك خلف الستائر، ولم يحبسني في قارورة، وإنما أدخلني إلى مجلسه، وقدمّني إلى زواره، وشجعني على المشاركة في كل الحوارات السياسية التي كانت تدور في ديوانيته.
وعندما كنا في لبنان، في الأيام الأولى لزواجنا، كنت أستقبل كبار السياسيين والصحافيين والمثقفيـن اللبنانيين معه، وأشارك في كل ما يدور من أحاديث
سياسية، وأدبية وثقافية وعندما أقمنا في القاهرة في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، أعطاني الفرصة لأشاركه في كل تفاصيل حياته وعلاقاته مع صانعي القرار في مصر، ومع نجوم المجتمع السياسي والأدبي والصحافي، مما وسّع آفاقي وأغنى ثقافتي وتجربتي.
ومن أهم أفضال عبد الله المبارك عليّ، أنه (صَنَعني) فكرياً وثقافياً، حين فتح أمامي الضوء الأخضر لأواصل تعليمي، وأستكمل معارفي، فدخلت جامعة القاهـرة، وحصلت على بكالوريوس في الاقتصاد رغم مسؤوليات الأمومة، والبيت الكبير.
وعندما عبرت له عن رغبتي في التحضير لشهادة الماجستير والدكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية، لم يكسر أحلامي، وإنما قرر أن نسافر جميعاً إلى لندن
لنكون معاً خلال فترة دراستي.
هذه المواقف الرائعة إذا دلَّت على شيء، فإنما تدل كم كان عبد الله المبارك يحترم عقل المرأة، وكم كان يحترم العلم والمعرفة، والثقافة، وكم كان طليعياً في نظرته إلى حق المرأة في التحرر من التبعية، والهامشية، والجهالة.
قليلون هم الرجال الذين يضعون نساءهم على أكتافهم، ويصعدون بهم إلى قمة الجبل… في هذا الوطن العربي.
وأشهد أن عبد الله المبارك حملني على أهدابه، وعلى أكتافه حتى أوصلني وأولادي إلى شاطئ السلامة.
وبالرغم من أنني تزوجتُ عبد الله المبارك وهو في ذروة السلطة والنفوذ، وبالرغم من حداثة سني وتجربتي في أول أيام الزواج، إلا أن عبد الله المبارك شاركني في كل قضاياه وشؤونه الكبيرة والصغيرة.
يعتز بوجودي إلى جانبه، ويقول لضيوفه: إن أم مبارك هي دعامة البيت ووردته، وهي مصدر الخير والبركة.
ليس هناك أسرار أحجبها من حياة عبد الله المبارك.. فهو كتاب مفتوح أحمله في عنقي، وأتلو كلماته على أولادي فيتعطرون بمجد أبيهم.
طويلة.. طويلة.. هي حكايتي مع عبد الله المبارك، أما علاقتي بأولادي فهي تتحرك على ثلاثة محاور أساسية:
أولاً- محور الديمقراطية.
ثانياً- محور الصداقة والاحترام واحترام الرأي الآخر بصرف النظر عن السن والجنس.
ثالثاً- محور الانتماء إلى التراث الديني والأخلاقي والقيم الموروثة.
فالديمقراطية التي أطبقها في حياتي العامة، وأؤمن بها كخط فكري وثقافي، وسياسي، أطبقها في بيتي لأنني أعتقد أن البيت الذي لا ديمقراطية فيه.. هو أقرب إلى المعتقل.. منه إلى البيت السعيد.
لذلك منذ أن أصبحت أماً، أرضعت أولادي حليب الديمقراطية، وقررت أن أكون صديقتهم التي يتكلمون معها بصراحة وحرية.. بعيداً عن عصا القمع والإرهـاب.. لا إرهاب في بيتنا أبداً، فالكلُّ سواسية في التعبير، والحوار، والمناقشة سواء أكانوا ذكوراً أم أناثا ً. ولابنتي الصغيرة الشيماء من الحقوق ما لابني الكبير محمد.
فنحن في بيتنا لا نعرف التمييز، والتعصب، والتفرقة العنصريـة. ولذلك نشأ الأولاد في جو صحي لا يعرف المشاحنات، والمشاجرات، والبغضاء.
المحور الثاني هو محور الصداقة التي ربطت بيني وبين أولادي، فأنا أستمع إليهم، وأساعدهم على حل مشاكلهم، دون اللجوء إلى الصراخ والعصبية.
وعندما تكون الأم صديقة لأولادها، فإنهم يلجؤون إليها في أزماتهم، بدلاً من أن يلجؤوا إلى الغرباء وأصدقاء السوء.
المحور الثالث هو محور الانتماء إلى عالم القيم، فكل بيت يجب أن يقوم على أساسات ثابتة من المبادئ والقيم الدينية والقومية والأخلاقية والاجتماعية،
كالصدق، والاستقامة، وعمل الخير، ومحبة الآخرين، والإحساس مع الفقراء والمرضى، والنضال من أجل كرامة الوطن، وتقدمه، وحريته.
وإذا لم نزرع هذه البذور في وجدان أولادنا منذ طفولتهم، أضاعوا اتجاههم، وتناثروا كالأوراق في مهب الريح.
إن الحجر الأول في عمارة الوطن يوضع في البيت. وأنا أحمد الله أن أولادي تعلموا من أبيهم ومنّي كيف ينتمون إلى أرضٍ ووطنٍ وتاريخ.