كنت أريد أن أفتح حقائب الفرح[1]
يا أساتذتي الأجلاء.. أيها الأحباء الأحباء..
بعد فراق دام عشرين عاماً بيني وبين جامعتي، أعود وقلبي يخفق كعصفور ربيعي..
فما أحلى الرجوع إليها..
وما أحلى الرجوع إليكم..
شعوري هو شعور الحمامة العائدة إلى قبة مسجد، أو شعور سفينة أتعبها الصراع مع الرياح والأمواج وأسماك القرش.. فعادت إلى مرفئها القديم.
في عام 1970 كنت طالبة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. كان زمناً جميلاً اختلطت فيه الطفولة بالشباب.. بالطموح.. بالجنون.. بكتابة الشعر.. بالأحلام المستحيلة.
كان ذلك الزمن أروع الأزمان، بل كان سيد الأزمان، وما زال المقعد الذي كنت أجلس عليه في قاعة المحاضرات هو أعظم عرش جلست عليه في تاريخ حياتي.
الطلاب هم الملوك الحقيقيون، خلال دراستهم الجامعية، حتى إذا تركوا الجامعة نزعت التيجان عن رؤوسهم.
بحنين الطفل العائد إلى بيت أبيه، أعود إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لألملم ذكرياتي التي لا تزال تعرض على حيطانها كأزهار الياسمين.
فهنا نبت ريشي..
وهنا تعلمت الطيران وحدي للمرة الأولى.
من أجل هذا يسعدني أن أعود بعد عشرين عاماً، لأعترف بجميل فضلها عليّ، فقد سقتني من ينابيع المعرفة حتى ارتويت، وأشعلت لي شموع الحقيقة حتى اهتديت.
قبل عشرين عاماً كان الصبا يلون كل الأشياء باللون الأخضر، وكنا نرسم القمر بالشكل الذي نريد، ونعطيه الحجم الذي نريد.
قبل عشرين عاماً كنا قادرين على تغيير هندسة الليل والنهار، وقادرين على أن نخرج الربيع من جيوبنا.
قبل عشرين عاماً كان الوطن فراشة قزحية الجناحين تحط على أكتافنا..
وكانت الحرية عصفوراً خرافياً يأتي كل مساء ليبني عشه على شرفاتنا.
قبل عشرين عاماً كانت الكتابة ممكنة، والأحلام ممكنة، والشعر ممكناً.
يا أساتذتي الأجلاء..
أيها الزملاء والزميلات، أيها الأصدقاء الأصدقاء..
كنت أريد أن أفتح أمامكم حقائب الفرح، لا حقائب الحزن، وأن أطير إليكم على سجادة الشعر والكلمات الجميلة.
ولكن ماذا أفعل، إذا كانوا قد سرقوا الشعر من فمي، والوطن من راحة يدي.. وسرقوا الشعب الكويتي من بيته، وسرقوا التاريخ بقوة السلاح؟
ماذا أفعل إذا كان الوطن العربي مصراً على الانتحار، ومصراً على أن يتحاور مع الآخرين بالمسدسات الكاتمة للصوت؟
ماذا أفعل إذا كانت الحرية –كما نفهمها- هي حرية اغتيال الآخرين.. والوحدة العربية المنشودة هي في سحق الأوطان الصغيرة بجنازير الدبابات؟
ماذا أفعل بمن أضرم النار في سفينة الأمة العربية، ورمى ركابها للحيتان الجائعة؟
هذا باختصار ما فعله المقامرون المغامرون بوطني الكويت..
ومع هذا، ومع كل الحرائق التي تحاصرني، ومع كل العواصف التي تضربني، فلن ألقي السيف أبداً، ولن أترك القراصنة يبحرون بسفينة الكويت إلى المجهول.
سوف أبقى على ظهر السفينة، أقاتل بأظفاري وأسناني، حتى يلوح ضوء الفجر، ويغرق آخر القراصنة.
وربما كان وجودي اليوم في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فرصة نادرة، لأجدد عزيمتي وأجمع ذخيرتي، وأتزود بالماء والسلاح والحرية، فالجامعات هي الحدائق المثالية التي تتفتح فيها أزهار الثورة والحرية.
ومن أجل هذا أتيت إلى جامعتي لأقرأ مرة أخرى كتاب الثورة.. وكتاب الحرية.
[1] ألقيت في ندوة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة بتاريخ 17/10/1990.