كويتيون بلا قبور
لم يغنِّ أحد لمجد العراق كما غنّيت أنا.
ولم يَسْقِ أحدٌ مياهَ دجلة بدموعه، كما سقيتُها أنا.
ولم يرشق أحدٌ جنودَه بالورود والريحان، كما رشقتهم أنا.
وأخيراً، لم تتمنَّ امرأة عربية أن يكون جسدها “نخلة تشرب من شطّ العرب” إلا أنا..
لقد كنتُ دائماً متَّهَمَةً بأنني عراقية الهوى، وأن كتاباتي، شعراً ونثراً، مبلّلة بأمطار العراق، ورطوبة أنهاره، ونضارة بساتينه.
وكنتُ دائماً أفاخر بهذه التهمة الجميلة، لأنني كنت أعتبر العراق الجناح العربي القومي الذي يغطينا، ويحمينا، ويدافع عن مستقبلنا ومستقبل أولادنا.
وبكلمة أخرى، فإن التزامي بالخط العراقي، كان التزاماً بالخط القومي، الوحدوي.
كان العراق يمثل لي، تلك القوة الصاعدة الواعدة، التي افتقدناها في السبعينيات، كما كنت أرى فيه البديل القومي، والإستراتيجي الذي سيصحح ميزان القوى بيننا وبين إسرائيل، وينهي حالة الهوان، والتخاذل والتشرذم والانفلاش، التي عصفت بدول المنطقة.
فإذا كنت وقفت مع العراق كما وقف كل أهل الكويت في أيام الشدة فلأنه يمثل لنا السند والمدد، والضمانة القومية والخيار القومي الوحيد بعدما سقطت جميع الخيارات.
فما الذي حدث حتى غامت الصورة الجميلة، وبهتت ألوانها؟ كيف يبست بين عشية وضحاها بساتين النخيل في قلبي، وماتت العصافير، واختفى ضوء القمر؟
كيف انكسر زجاج السماء فجأة فوق رأسي.. ودخلت شظاياه في عيوني؟!
إنني أكتب هذه الكلمات وأنا مدفونة تحت رماد هذا الزلزال العنيف الذي طمر أحلامي الجميلة.. وطمرني.
إنني أتابع نشرات الأخبار على التلفزيون البريطاني، مع آلاف من الكويتيين فلا نصدق ما نرى.. ولا نصدق ما نسمع.
كيف يمكنني أن أصدق، أنا العربية الكويتية، أن بلدي يلغى بجرّة قلم.. وأن تاريخي تأكله جنازير الدبابات الصديقة؟!
كيف يمكن أن أستيقظ صباحاً، لأجد نفسي بلا بيت، ولا أهل، ولا هوية، ولا تذكرة سفر أعود بها إلى ربعي، وديرتي، وأبناء عمومتي؟!
من ذا يصدق أن يموت عمي بين يدي في أحد مستشفيات لندن، بجلطة في دماغه بعد سماعه أنباء الغزو العراقي على الكويت، ولا أستطيع أن أنقله إلى الكويت ليدفن في ترابها حسب وصيته، وأبقى أياماً أفتّش له عن تراب يحتويه؟
هل أصبح الكويتي الذي يموت في الخارج ممنوعاً من السكن في مقبرة كويتية تستريح فيها عظامه؟!
وهل من المعقول أن يحتل الجيش العراقي الصديق.. بلادنا ومقابرنا أيضاً؟!
ثم ماذا اجترح أبناء الشعب الكويتي من آثام حتى يجدوا أنفسهم، دون سابق إنذار، متسولين على أرصفة المدن الأجنبية بعدما تحولت الدنانير القليلة الباقية في جيوبهم إلى نفايات؟!
ماذا فعل الكويتيون حتى يحل دمهم وتهان كرامتهم، وتنتهك حرمة بيوتهم؟! هل هذا هو ثمن عروبتهم ونخوتهم وعطائهم، والتزامهم القومي؟!
اعذروني، أيها السادة، إذا كانت كلماتي عصبية وحارقة.. فالكتابة على فوهة بركان، لا بد أن يكون لها طعم الحريق.
ورغم الحزن الكبير الذي يعتصر أعماقي، ورغم الخراب العظيم الذي يتراكم في صدري وفوق أوراقي، فإنني أعتبر نفسي ابنة الكويت أولاً.. وابنة الكويت ثانياً.. وثالثاً.. وعاشراً.. وأن العدوان على بلدي غلطة كبرى كان من الممكن تجنبها.
فالدبابة هي دائماً أسوأ مفاوض في التاريخ..
وقوة المعدن لا يمكن أبداً أن تنتصر على قوة البصيرة والعقل.. والصاروخ قد يهدم مدينة.. ولكنه لا يهدم تاريخ شعب، وتراثه وعنفوانه.
غداً.. ستعود الدبابات والمجنزرات العراقية إلى حظائرها وهي تبكي..
لأنها أضاعت طريقها إلى الهدف القومي الكبير..