لن تتحول الكويت إلى أندلس ثانية[1]
أيها الأصدقاء..
الدخول إلى نقابة الصحافيين في القاهرة، يشابه الدخول إلى جامعة تعلم تلاميذها مادة واحدة فقط هي الحرية.
هذه المادة الواحدة تلغي كل المواد الأخرى، فبغير الحرية يتحول الإنسان إلى نصف إنسان.. أو إلى ربع إنسان.. أو إلى مشروع إنسان.
ولأنني أبحث عن الحرية، ككتابة وشاعرة ومواطنة، فإنني أجد في نقابة الصحافيين المصريين الأرض المثالية التي أستطيع أن أقول عليها ما أشاء.. وأصرح كما أشاء.
أيها الأصدقاء..
إنني أقصد القاهرة لأقول فيها كلاماً لا أستطيع أن أقوله في غير القاهرة.
ففي هذا العصر البوليسي الذي أصبح فيه الحوار العربي – العربي محكوماً بالقنابل والمسدسات والصواريخ بعيدة المدى، تبحث الكلمة العربية عن ملجأ أمين، لا يصل إليه رصاص المتقاتلين.. ولا تغطيه الأسلاك الشائكة، وأكياس الرمل.
في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رماداً، وكلماتنا رماداً، وأمانينا رماداً، نلتجئ إلى ذراعَي مصر التي كلما أردنا أن نكتب كتبنا على سمائها المفتوحة الزرقاء، وكلما أردنا أن نستحم بماء الحرية قصدنا نيلها العظيم، وكلما أردنا أن نبكي بكينا على صدرها الرحيم.
أيها الأصدقاء..
كم أنا سعيدة، وملأى بالعنفوان، لأني في بيت الصحافة، بيت الصحافة هو بيتي.. وقضيتها هي قصيتي.
وأنا مدينة للصحافة المصرية بشكل خاص لأنها علمتني كثيراً، وكرّمتني كثيراً، وكانت دائماً رفيقة كلماتي، ورفيقة حريتي.
الصحافة هي السلطة الرابعة في عالمنا، بل هي السلطة الأكثر ثباتاً، والأرسخ جذوراً من كل السلطات.
وفي حين تتساقط ديكتاتوريات، وتترنح أيديولوجيات، وتتناثر أنظمة بوليسية كأوراق الخريف.. تظل الصحافة سيفاً شجاعاً يقود معارك تحرير الشعوب في كل أرجاء العالم.
إن الصحافة التي أعنيها، ليست الصحافة الخائفة، ولا الصحافة المتسولة على أبواب الأنظمة، ولا الصحافة الهاربة من الجندية، ولا صحافة تزوير المواقف، ولا صحافة العرض والطلب، ولا الصحافة التي تغيِّر مواقفها حسب نشرة صرف العملات، ولا الصحافة التي تغيِّر ولاءها.
مثل هذه الصحافة التابعة والذيلية والجالسة تحت أقدام من يملكون السلطة، أو يملكون رأس المال.. لا أناقشها أساساً.
وإنما أتحدث عن صحافة أخرى، بقيت رغم كل الضغوط المادية والاقتصادية والسياسية محتفظة بنقائها وشرفها.. وعذريتها.
إنني أحمل أحزاني إلى مصر، لأنها أكثر البلاد فهماً لطبيعة الحزن، وأحمل إليها مدامعي، لأنها تعرف جيداً من أين تأتي الدموع، وأرفع فوق أهراماتها بيارق حريتي.. لأنها معلمة الحرية.
إنني أقصد مصر الأم، لأشكو إليها عقوق بعض الإخوة الذين أشعلوا النار في منزل الأبوة، وقطعوا شجرة العائلة، وحولوا الدم العربي إلى نهر من الأوساخ.
أيها الأصدقاء..
أنا شاعرة عربية من الكويت، سرق مني وطني، خلال خمس دقائق؛ ببحره وشواطئه وأشجار نخيله ورجاله ونسائه وأطفاله وعنوانه ورقم صندوقه البريدي..
خمس دقائق فقط.. لم يتركوا نخلة في بساتين الكويت إلا قطعوها، ولم يتركوا سمكة في بحر الكويت إلا أكلوها، ولم يتركوا نجمة في سماء الكويت إلا اعتقلوها، ولم يتركوا مطبعة أو جريدة أو مكتبة.. إلا نسفوها.
خمس دقائق فقط.. حمل النازيون الجدد الكويت في حقيبة على ظهورهم، ولم ينسوا أن يضعوا الشعب الكويتي كله في داخل الحقيبة.
في الثاني من شهر أغسطس 1990، اكتشفنا أن مافيات القومية العربية سرقت الكويت، ومدارس الكويت، وأبراجها، ومستشفيات الكويت، وممرضات الكويت، وأنابيب الأوكسجين، وغرف العمليات، وزجاجات المصل.. ووضعتها في سيارات شحن، ونقلتها إلى بغداد..
أيها الأصدقاء..
إنني شاعرة كويتية عربية وحدوية، نذرت دموعها وقلمها ومالها.. من أجل قيامة وطن عربي جديد ينهض على أساس العقل والمعرفة والعدالة والديمقراطية.. ولكنني بكل إصرار أرفض الخلط بين القومية العربية واللصوصية، وبين المثل الأعلى والغوغائية، وبين طهارة العقيدة ودعارة التطبيق.
لقد سقطت النازية في كل أنحاء العالم، وتدحرجت الديكتاتوريات تحت أقدام الشعوب، وانتصر الإنسان على جلاديه وقاتليه، وهدم أسوار سجونه.
وإذا كان جدار برلين قد تحطم بعد خمسة وأربعين عاماً بضربات الشعب الألماني، فإن الشعب الكويتي سوف يحطم جداره أيضاً.
وإذا كان الشعب الروماني قد صفّى حسابه مع تشاوشيسكو، والشعب السوفييتي قد نبش قبر ستالين.. فهذا دليل على أن عمر الطغاة قصير، وأن تاريخ الشعوب لن يشطب بهذه السهولة.
إن محاولة شطب الكويت من التاريخ هي محاولة مستحيلة، ومهما كان الخراب كبيراً، والجرح عميقاً، والأساليب متوحشة.. فسوف يعود الكويتيون إلى الكويت، ليبنوها حجراً حجراً، ونخلة نخلة، وموجة موجة، ومئذنة مئذنة.
ولن تتحول الكويت أبداً إلى أندلس ثانية.
وشكراً لصحافة مصر، التي حملت الكويت على أهداب عينيها ونصرتها، وقاتلت معها في الصفوف الأولى.
وشكراً لمصر العظيمة التي لم تتردد في دخول معركة الحرية مع الكويت منذ أول لحظة.
إنه شكر الأحرار للأحرار.
[1] ألقيت في ندوة نقابة الصحافيين بالقاهرة في 27/10/1990