هل تسمحون لي أن أحب وطني
القسم الأول
هل صار حب الإنسان لوطنه عاراً، أو عيباً، أو جريمة تستحق الشنق؟
وهل صار انتماء الإنسان إلى ثدي أمه، وفصيلة دمه، وسقف بيته، وتراب آبائه وأجداده، تهمة تعادل الخيانة العظمى؟
نعم.. نعم.
هذا ما يتشدق به (الوطنجيون) في هذه الأيام التي أصبحت فيها الوطنية سيارة بلا عجلات.. ولا سائق..
وهذا ما يكتبه الثوريون، والمؤدلجون، وبائعو بالونات الوطنية الكاذبة على رصيف الشارع العربي.
لماذا؟
لأنك –بكل بساطة- رفضت أن تطحن دبابات الرفيق ميشيل عفلق جثتك، وجثة أولادك، وتفرم ماضيك وحاضرك ومستقبلك خلال خمس دقائق.
(الوطنجيون) ناقمون عليّ..
لأنني اعتديت على عذرية الدبابة، ولم أشكرها حين مرت على جسدي، فلقد كان التهذيبُ وحسن السلوك والحضارة تَفرضُ عليّ، أن أرشها بالورد والأرز.
و(المؤدلجون) غاضبون مني لأنني استدعيت البوليس لينقذني من لصوص القومية العربية الذين خلعوا باب وطني، واستولوا على كل ما فيه من أثاث وأوانٍ وسجاد وأجهزة تكييف وثلاجات وتلفزيونات، باعتبار أن هذا هو من ممتلكات الرفيق ميشيل عفلق، بموجب قوائم رسمية مصدقة من القيادة القطرية للحزب الحاكم في العراق، ونحن سرقناه من منزله في بغداد.
والمثقفون المناضلون على طاولات المقاهي والعقائديون المحاربون بأسلاك الميكروفونات، والكتّاب المستأجرون في حفلات الزار، والثوريون الواقفون بالطابور أمام حنفيات النفط.. كل هؤلاء متضايقون مني، لأنني رفضت أن يذبح وطني على الطريقة الماركسية، أو الطريقة البعثية، أو الطريقة المجوسية..
والعاطلون عن العمل في مقهى الوحدة العربية (المغلق حتى إشعار آخر) أعلنوا الحرب علي، لأنني اخترت وطني، ورفضت بيعه في المزاد العلني للعقداء، والجنرالات وأصحاب البدلات الكاكية.
***
الوطنية لا تكون بالغضب والإكراه وإلغاء إرادة الآخر، وإذا كان النظام العراقي يرى أن تحرير القدس يكون باستبعاد الكويت من الخارطة فإننا نختلف معه كثيراً.
وإذا كان النظام العراقي يعتقد أن الحكم في الكويت هو حكم غير شعبي وغير ديمقراطي.. فهذا شأن يقرره الشعب الكويتي، ولا تقرره جنازير الدبابات.
ولا نريد أن ندخل في مقارنة بين الديمقراطيات في العالم العربي، لأن نتيجة المقارنة لن تكون في مصلحة العراق أبداً.
***
إن الذين يغنّون المواويل على (الوحدة التي لا يغلبها غلّاب).. يتهمونني بالردة والانهزامية وخيانة القضية.. لأنني كنت صديقة العراق، ورفيقة نضاله، ومنشدة انتصاراته، ولكنني بعد 2 أغسطس (آب) 1990 غيّرت رأيي، وقدّمت استقالتي..
هذا صحيح، فلقد كنت في خندق واحد مع العراق، وكتبت فيه أجمل الشعر، يوم كان العراق يجسد لنا أحلامنا القومية، ويحارب دفاعاً عن وجودنا، وعن مستقبل أولادنا، وعن تراث الأمة العربية وتاريخها.
هذا هو موقف معروف، ومسجل ومكتوب، ولا أخجل منه لأنه جزء من فكري ومن قناعتي ومن خطي القومي.
لكن العراق بعدما ابتلع الكويت، وقرر أن يحولها بالدبابات إلى المحافظة التاسعة عشرة من العراق، خذلني، وسحقني، وألقى أحلامي في الهاوية.
والعراق بعد مغامرته العشوائية لم يعد سندي ولا مُخلِّصي.. ولا مُحرِّري.. وإنما صار مُستعمِري.
من كان يصدق أن تتحول مواسير المدفعية العراقية 180 درجة مئوية، عن أهدافها القومية لتدك بيتي في الكويت؟
من كان يصدق أن الجيش العراقي الذي يحرس بوابة الوطن الكبير، ويحتفظ بمفاتيحه يسلبني بيتي ويتركني في العراء؟
من كان يصدق أن تتحول الوحدة العربية التي طالما حلمنا بها، وغنينا لها، وكتبنا لها الملاحم.. إلى عملية سطو مسلح؟
إن الوحدة سوف تبقى دائماً هذه المدينة الفاضلة التي نسعى للوصول إليها، رغم ارتفاع الأمواج وجنون العاصفة.
ولكن الوحدة العربية لا تتحقق أبداً بتكسير الرؤوس.. وإنما بمخاطبة النفوس..
ويوجعني أن أقول إن اجتياح الكويت بهذه الطريقة المتوحشة والسادية قد أخّر المشروع الوحدوي، ومع كل الإحباط الذي أصابني، ومع كل هذا الركام الذي تجمّع في داخلي.. أقول: إن الشعب العراقي العظيم سيبقى في القلب دائماً.. وهو بكل تأكيد ليس مسؤولاً عما حدث..
ولكن المسؤول.. هي الدبابة!
هل تسمحون لي أن أحب وطني
القسم الثاني
أتابع بكثير من الدهشة المقالات النقدية التي يكتبها عني بعض المثقفين، ويأخذون فيها تغير أفكاري، وتناقض مواقفي فيما يتعلق بموقفي من الغزو العراقي لبلادي.
ولكي يثبتوا وجهة نظرهم فإنهم يرجعون إلى أرشيفي الشعري والنثري ويفتحون كل الخزائن والملفات والأوراق الخاصة بعلاقتي مع العراق حتى يربحوا الدعوى ضدي.
والواقع أن علاقتي الأدبية والروحية بالعراق ليست علاقة سرية حتى أخجل بها، فهي كعلاقة ملايين من الخليجيين وقفوا مع العراق في حربه. وما كتبت من شعر ونثر، وما ألقيته في المربد من قصائد أيام كان الجيش العراقي يخوض باسم العرب حرباً مصيرية، كل هذه الكتابات مدونة ومسجلة ومنشورة، ولا أشعر تجاهها بأي عقدة من عقد النقص أو الندامة.
ولو أن عقارب الزمن رجعت إلى عام 1980 مرة أخرى، واضطر الجيش العراقي للدفاع عن الشعب العربي، لوقفت معه بغير تردد.. وكتبت ذات القصائد التي كتبتها قبل عشر سنوات.
إن رؤيتي القومية في الثمانينيات كانت رؤية كل القوميين والمثقفين العرب.. وكانت متطابقة مئة بالمئة مع المشروع القومي الثوري العربي، ولم تكن قصائدي في المربد سوى جزء صغير من ألوف القصائد التي غنى بها الشعراء العرب للعراق، معبرين بذلك عن التزامهم العربي والقومي في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ العرب.
أما وقد ضرب النظام العراقي في ابتلاعه البشع لدولة الكويت المشروع القومي العربي، وانحرف 180 درجة مئوية عن الهدف القومي الكبير، فقد وجدت نفسي في حل من التزامي، لأنني لا أستطيع أن أكون شاهدة زور على هذه المجزرة التي ترتكب على أرض بلادي.. كما لا أستطيع أن أشكر الدبابة التي نسيت طريقها إلى أرض فلسطين، وحطمت بوابة وطني.
ربما كنت مخدوعة، أو مغرورة، أو رومانسية، حين اندفعت بكل عاطفتي في تأييد نظام كان يخطط في الظلام لإبادتي وإلغاء وجودي.
وربما كنت مضللة، حين لم أكتشف الوجه الحقيقي للنظام العراقي الذي كان يقوم على القمع.
وربما كنت ساذجة لأنني لم أتنبأ بأن السيف العراقي الذي غنيته في إحدى قصائدي.. ذبحني، وأسال دمي.
وربما كان عذري أنني شاعرة، قبل أن أكون منجّمة، أو طبيبة نفسانية لأعرف طبيعة الأنظمة، وأفكارها ونواياها، وأتنبأ بما سوف تحمله لي ولبلادي، وللوطن العربي.. من كوارث وويلات.
وأود أن أقول للأساتذة النقاد والمثقفين، الذين أحمل لهم كل الحب والاحترام، إنهم في نقدهم يتجاهلون أن الشاعر ليس حجراً، ولا بلاطة ولا عمود كهرباء، ولا شكلاً هندسياً لا يتغير.
الشاعر هو برق ومطر وسماء دائمة التحولات.
الشاعر حالة تاريخية وبشرية ونفسية، ولا يمكننا أن نطلب من الشاعر أن يبقى كقضبان السكة الحديدية أو كتمثال إغريقي قديم.
ثم إن مواقف الإنسان ليست مصنوعة من الحديد والإسمنت، ولكنها مصنوعة من الدم واللحم والأعصاب.
والشاعر ليس عالم فيزياء أو كيمياء أو رياضيات، حتى نسجنه في داخل معادلاته وأرقامه، ونتهمه بأنه وقع في التناقض.
إن سيد الشعر العربي أبا الطيب المتنبي اختصر حالته، وحالتي، وحالة كل شعراء الدنيا.. في بيت شعر واحد يقول فيه:
على قلق كأن الريح تحتي أوجهها يميناً أو شمالا
وبعيداً عن المزادات الأيديولوجية والمثالية والتنظيرية، وبعيداً عن الوعظ والنصح والتعليم والأستذة.. التي تقفها بعض الأنتلجنسيا العربية من اغتصاب الكويت..
أقول للأساتذة الذين يلبسون القفازات والأقنعة الواقية خوفاً من أن تحترق أصابعهم بنار حرب الخليج، وتشوه وجوههم الجميلة..
أقول لهم: إنني سأبقى كويتية من رأسي إلى قدمي، ولن أسمح لأحد أن يقتلعني من بيتي وهويتي وجذوري..
فهل تسمحون لي أن أحب وطني؟؟
هل تسمحون لي أن أحب وطني
القسم الثالث
وتعود مرة أخرى لتسأل فقهاء القومية العربية وبطاركتها: “هل تسمحون لي أن أحب وطني؟؟”.
فينظرون إليك من أعلى أنوفهم.. ساخرين ومتعجبين من سؤالك الرجعي والمتخلف.
ورغم أن السؤال طبيعي ومشروع، وهو من حق كل الأحياء ابتداء من الديدان، إلى الطيور إلى الأسماك إلى القطط.
فإن الأساتذة يرون أن سؤالك لا محل له من الإعراب، وأن حب الوطن مؤجل حتى إشعار آخر.
وإذا سألتهم أنا واقعة بين أن أكون مع وطني أو أن أكون مع الدبابة.. فيجيئك الجواب بارداً كالقبر، ومحايداً كالموت:
– مع الدبابة، طبعاً..
إن مناقشة الشأن الوطني مع طبيب بيطري، أو مع ملاكم، أو شاويش في أحد السجون.. لا يؤدي إلى نتيجة، لأن الوطن عند بعض البشر ليس سوى زائدة دودية يستحسن قطعها.
وعندما يسأل الكويتي وهو يبصق دماً بعض أطباء القومية العربية وصيادلتها:
– ووطني الكويت.. ما وضعه الديموغرافي والفيزيولوجي والعضوي والإنساني حسب تشخيصكم؟
فيجيء الجواب بارداً كالقبر، ومحايداً كالموت:
– زائدة دودية.. طبعاً.
إن النظر إلى الأوطان على أنها زائدة دودية لا تضر ولا تنفع سوف يشجع أي مغامر يحمل في جيبه مقصاً على أن يقص ويفصل أجساد الأمم على هواه.
وما أصاب الكويت لم يكن عملية جراحية حمقاء قام بها حلاق يمارس الجراحة بلا ترخيص قانوني.
إن من يقرأ كتابات وتفسيرات وتبريرات بعض فلاسفة القومية العربية والمنظرين لها على الورق فقط.. يكتشف أن هؤلاء الفلاسفة يعيشون في كوكب آخر، ويختبئون خلف ظلهم، ويستعملون في خطابهم القومي اللغة المسمارية!!
إنني لم أكتشف معنى جبن بعض المثقفين إلا في هذه الأيام المأساوية، فكاتب يكتب بنصف أصابعه، وآخر يكتب بربع أصابعه، وصحافي كبير يكتب كي لا يقول شيئاً، ولا يتخذ موقفاً، وكاتب يضع عشرات الأصباغ على وجهه كأنه ذاهب إلى حفلة تنكرية، وكاتب يختبئ تحت اللحاف حتى لا يلقى القبض عليه متلبساً بجريمة قول الحقيقة.
أين هم مثقفونا التقدميون الذين كانوا يملؤون الدنيا بعبعة وجعجعة إذا انتهكت عذرية ذبابة في بلاد الأسكيمو، أو انتحرت ضفدعة في غابات الأمازون، أو سحقت الدبابات السوفييتية أجساد التلاميذ في ربيع براغ؟
هل قرأ المحاربون بنظارات القومية العربية القصة الدامية التي روتها إحدى الطبيبات العاملات في الكويت، وأكدت فيها أن 22 مولوداً جديداً في أحد مستشفيات الكويت لقوا حتفهم بعد سحب جنود الاحتلال العراقي خراطيم الأوكسجين من حاضناتهم، في إطار النهب العراقي لمعدات المستشفيات والمراكز الطبية، ونقلوها إلى بغداد.
(انتهى كلام الطبيبة)
طبعاً لا أحد من مثقفينا المحاربين بنظارات القومية العربية قد قرأ هذا الخبر، لأنه خبر عادي جداً، لا يحرق الأعصاب، ولا يحرك الضمائر ولا يثير شهوة الكتابة.
ما الذي يثير خيال الكاتب العربي إذن؟
يثيره أن تموت ذبابة بفقر الدم في تنزانيا أو نيكاراغوا أو غواتيمالا..!
أما أن يموت نصف مليون مصري وهندي وباكستاني وسريلانكي.. عطشاً وجوعاً على الحدود العراقية الأردنية فمسألة فيها نظر..
وأما أن يخسر الشعب الكويتي خلال نصف ساعة اسمه وبيته وعنوانه وثيابه ونقوده وتاريخه وذاكرته.. ويتحول إلى شعب من الغجر يحمل حقائبه وأولاده، وأحزانه على كتفيه.. ويبحث عن خيمة يأوي إليها، فمسألة ثانوية جداً، أمام زحف جيوش الإمبريالية من بلاد قحطان وعدنان..
أما من هم الإمبرياليون؟ وهل جاؤوا من الشرق أو من الغرب، ومن البحر أو من البر؟ وهل هم نصارى أو مسلمون؟ وهل هم يتكلمون الإنجليزية أو يتكلمون العربية؟ وهل هم من سلالة إبراهام لينكولن أو من سلالة أبي العباس السفاح؟
فالعلم عند الله..
والذي أعرفه أن كلمة (الإمبريالية) هي حمّالة أوجه، ولها أكثر من معنى في قاموس أوكسفورد أو في قاموس محيط المحيط.. ورغم أن اللفظة في أساسها لاتينية فرنجية، لكن العرب نقلوها بأمانة إلى اللغة العربية، وأدخلوها إلى قاموسهم العربي والعسكري.. فصارت لدينا (إمبريالية عربية) لا تقل فتكاً وقسوة وضراوة عن كل الإمبرياليات الفرنجية المستوردة.
وهذا يعني أن الإمبرياليات كثيرة، لا واحدة، فثمة إمبريالية مستوردة، وثمة إمبريالية من (الصناعة المحلية) تتفوق بجودتها ومتانتها ومواصفاتها على كل الإمبرياليات التي أنتجتها مصانع الغرب.
وقد رأى الكويتيون في فجر اليوم الثاني من شهر أغسطس (آب) الماضي بأم أعينهم ولادة إمبريالية لا تقل وحشية ودموية وجنوناً عن إمبرياليات القرن التاسع عشر.
ويخرج حكماء القومية العربية من جحورهم ليقنعوك بعد أن سرقت بلادك منك، بأن تبقى مبتسماً ومبتهجاً ومتفائلاً.. ويطلبون منك أن تشكر الله، لأن حلم المرحوم الأستاذ ميشيل عفلق قد تحقق أخيراً.. ولأن استشهاد الشعب الكويتي تحت جنازير الدبابات العراقية هو أقرب لدخول الجنة..
ومع احترامي لسماسرة الجنة، والواقفين على شباك التذاكر في مسرح الوحدة العربية.. أقول لهم إن جنة يتولى قطع التذاكر فيها رجال مباحث، ويتولى إدارة أعمالها رجال المخابرات، هي جنة مرفوضة..
إننا نعرف جيداً طريقنا إلى الجنة، وطريقنا إلى الله.. أما جنتكم التي تحصد الرجال والأطفال والنساء بنار البنادق والرشاشات، وراجمات الصواريخ.. فإن الجحيم أكثر رحمة منها وأكثر سلاماً.