الإجازة المستحيلة
جئت إلى أوروبا.
حتى أغسل ذاكرتي منكْ..
فإذا بك مخبوءٌ في داخل حقائبي.
جئتُ لكي أستريح من دُوَارِ الحُب..
ومن دوَار البحرْ..
فإذا بأمواجك ترفعني إلى الأعلى
وترميني على صَدركَ.. مرة أخرى..
حاولت الهروبَ من صوتك النحاسي..
ورائحتك الطاغيَةْ..
فإذا بي أهرب إلى الأمامْ..
جئت إلى بلاد الشمالْ..
لأستمتع بإجازتي..
فإذا بك، تحجز كلَّ مقاعد الطائرات..
وكل غُرف الفنادقْ..
وكل تذاكر المسارحْ..
وكل الباصَات وسياراتِ الأجرةْ..
وتتركني أنامُ على الرصيف..
ذهبتُ إلى جزيرة في البحر الكاريبي..
لا يرتادها أحد.. ولا تصل إليها المراكبْ..
ولكنني، حين ذهبت إلى الشاطئ..
لأتمدد على رماله الدافئة..
خرجتَ لي كسمكة قرش من أعماق البحرْ..
وأكلْتَني..
كلُ أسفاري التي خطَّطْت لها
كانت حبراً على ورقْ..
وكل رحلاتي كانت ضد جاذبّية الأرضْ..
فلا أهميَّة لإجازة..
لا تُوقِّع عليها أنت..
ما كان أغْباني..
حين فتحت أبواب جَهنم بيدي..
فاحترقت أصابعي..
واحترق معطفي الجلْدي..
احترقَتْ كل الثيابِ الجديدة التي اشتريتُها..
ما عدا ذاكرتي..
منْ يُغطِّيني من أمطار أوروبا.
بعدَ رحيلكْ؟..
مَنْ يكونُ لي السَقفَ.. والمظلةْ؟
من يُخبئني في جيَب معْطفه؟
أو تحت جلدة ساعتهْ..
أو في راحة يدهْ..
عندما تضربني الرياحْ..
وتمضغني العاصفَة؟..
ماذا أفعلُ في هذه المقاهي
المكتظة بالعَفَاريت.. والأشباحْ؟..
كيفَ أدخل إليها..
وكلُ الوُجُوه هيَ وجْهُكْ..
وكلُّ الأصوات هي صوتُك..
وكلُّ الدُخان الذي يملأ رئتيَّ..
هو دُخانُكْ..
ماذا أطلبُ من الناديْ؟
إذا كنت ستخرجُ لي
من كُلِّ فنجان قهوةٍ أشربُهْ؟
موُجع فصْل الشتاء..
حين لا تكون معي..
موجعةٌ رائحة الحطبْ..
في مواقد الريف البريطانيّ.
موجعةُ قصور العصر الفيكتوري
موجعةُ دقات ساعة (بيغ بن)
موجعةٌ نكهة شاي (الإيرْلْ غراي).
الذي كنا نشربُهُ معاً..
في الساعة الخامسةْ..
وموجعةٌ موسيقى الملاعق والسكاكينْ
وهي تقطعُ قالب الزُبْدةْ..
وتقطعُ شرايين قلبي!!..
منْ يجعلُ الزوابعَ أقلَّ جُنُوناً؟
والأمطار أقل همجية؟..
والصقيع أقلَّ صقيعاً؟
إنّ أسناني تصْطكُّ من البرْدْ..
وأضلاعي تصْطكُّ من الشوقْ..
وقلبي يصطك من الوحدة
وذاكرتي ترتجف من الحرمان..
فكيف أستعيدُ توازني في هذه المدينةْ..
التي مشطنا شوارعها معاً
وثَرْثَرنا في مقاهيها معاً..
واستلقينا على أعشاب حدائقها معاً؟..
كيف أتفاهم مع هذه المدينة؟
التي رأتني دائماً
أتعثر جانبك كالحجلة..
وأتعلق كالتفاحة بذراعك اليسرى..
وترفض الآن أن تعترف بي وحدي؟؟..
كنت أحب الشتاء.. لأنه كان يشبهك..
لأنه كان يشبهني..
بحماقاتنا الصغيرة..
وانفجاراتنا الكبيرة
وجنوننا الجميل..
كنت أحبه.. لأنه كان يدثرنا بعباءته الرمادية..
ويلفلفنا بشراشف الثلج..
ويدهن قلوبنا كل ليلة..
بزيت الكافور..
ومسحوق الوجد والهيام..
لماذا قطعت عني مؤونة الشتاء..
من زيت.. وحطب.. وكبريت..
وحب.. وحنان.. وبطانيات صوف؟
لماذا سرقت من عيني ألوان قوس قزح..
وتركتني مرسومة بالأبيض والأسود؟
لماذا سحبت سجادة اللغة من تحت أقدامي؟
وتركتني خرساء؟..
كل الفصول مستحيلة في غيابك..
الصيف مستحيل..
والربيع مستحيل..
والخريف مستحيل..
والشتاء لا يكون شتاءً حقيقياً..
إلا معك..