أوراق من كتاب التحرير..
كتابُ تحرير الكويت كتاب كبير..
وقد شارك في تأليف هذا الكتاب مئات الألوف من الكويتيين، رجالاً ونساءً، كباراً، وصغاراً، شيوخاً ويافعين، مقيمين ومهاجرين.. كلُّ واحد منهم أضاف إلى الكتاب سطراً أو كلمة أو نقطة.. حتى أشرق ضوء الشمس، وقرعت أجراس الحرية.
إن كتاب حريتنا ليس له مؤلف واحد.. أو كاتب واحد.. ولم تكتبه يد واحدة.. وإنما هو نشيد جماعي شاركت فيه ألوف الشفاه والحناجر..
إنه عمل سيمفوني، شارك فيه كل كويتي بجملة موسيقية حتى اكتمل النشيد..
***
ولسوف أحاول في هذه الأوراق القليلة أن أجمع خيطان الذاكرة، وأرسم صورة لمشاهد أخرى من نضال الكويتيين في المنفى الذين استفاقوا صبيحة اليوم الثاني من آب (أغسطس) 1990، ليجدوا أن سجادة الوطن قد سحبت من تحت أرجلهم..
ورغم أن الضربة فوق دماغنا كانت قاتلة، لكنها لم تقتلنا، ورغم أن (الاستعمار الجديد) كان جديداً علينا، لكننا لم نستسلم..
وبدأنا نتحرك على كل الجبهات.. كخلية نحل..
وصارت السفارة الكويتية في لندن بيتنا.. واللجنة الكويتية العليا عنواننا الدائم..
كنا مستنفرين كصيدليات الخفر 24 ساعة، ونعمل كتفاً إلى جانب كتف مع الرجال، وكان أولادنا يضربون على الآلة الكاتبة، ويوزعون المنشورات والبيانات، ويعملون سعاة بريد.. ويغسلون الصحون والفناجين..
وتألفت على الفور لجنة للإعلام، ولجنة للإعاشة والمساعدة الاجتماعية، ولجنة ثقافية، ولجنة للنظام، ومركز للدراسات.. كلها تحت مظلة اللجنة الكويتية العليا..
ومُدت أيدي المتطوعين إلى كل كويتي حتى يشعر بأن وطنه لن يتخلى عنه في زمن المحن والشدائد..
***
الأيام التي تلت الغزو كانت أياماً شديدة الوطأة على نفسي..
فلقد مات عمي الشيخ فاضل الحمد الصباح في لندن إثر انفجار في المخ في أول أيام الغزو، ولم نجد طريقة لنقله إلى الكويت، فاضطررنا إلى دفنه في تراب المنفى..
أما زوجي الشيخ عبد الله المبارك الصباح فقد أذهلته الصدمة، ودخل في حالة الصمت والإحباط والاكتئاب.
لم يصدق، وهو العربي الأصيل، أن يدخل الاستعمار عليه من نافذة بيته..
***
ورغم الإطار الرمادي الذي كان يحيط بي..
قررت أن أخرج من حالة الذهول، وأدخل مرحلة الفعل.. وبدا لي أن سلاح الإعلام، هو السلاح الأقوى، والأكثر تأثيراً في العقل الأوروبي، وبدأت أكتب غضبي.. نثراً وشعراً في الصحف السعودية الصادرة في لندن، وعلى رأسها صحيفة الشرق الأوسط التي فتحت قلبها وصفحاتها بكل محبة لكلماتي.
وكنت بذلك أول كاتبة كويتية تتصدى للعدوان في الصحافة الدولية، وساعدني في ذلك كوني عضواً مؤسساً وعضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان.
***
في يوم 6 آب (أغسطس) 1990، قابلت الأخ د.محمد الرميحي في السفارة الكويتية في لندن للمرة الأولى، وطلب مني أن ألقاه لأمر مهم.
وعندما التقيته، قال لي إن الشيخ ناصر محمد الأحمد الجابر وزير الإعلام يهديك تحياته، ويطلب مني أن ألقاه لأمرٍ مهم، ويطلب أن نتعاون معاً لإصدار جريدة تعبّر عن صوت الكويتيين في الداخل والخارج.
ورحّبت بالفكرة، وأعلنت استعدادي التام لحمل أعباء هذا المشروع مادياً ومعنوياً، إذا لم تستطع الحكومة الكويتية (بسبب تجميد الأموال الكويتية في الخارج) الإنفاق على هذا المشروع.
وفي اليوم التالي قابلت الدكتور محمد الرميحي، وأطلعني على فاكس من الشيخ ناصر محمد الأحمد الجابر يقدر لديّ روح التعاون لإنجاح هذا المشروع القومي، وأخبرني بأن الأستاذ محمد الصقر وشركاءه أعلنوا استعدادهم لوضع جريدة (القبس) الدولية تحت تصرف الحكومة الكويتية لتكون صوت الكويت في العالم.
وعلى الرغم من قلة الإمكانيات المتوفرة، وضيق مساحة التحرير التي لم تكن تزيد على صالة وغرفة، فقد استطاع الأخ الدكتور محمد الرميحي بالتعاون مع الأخ الشاعر عبد الرحمن النجار، وعدد قليل من المحررين، أن ينهضوا بهذا العبء، ويطلقوا صوت الكويت عالياً فوق منبر من أهم منابر الصحافة الغربية في العاصمة البريطانية.
وقد جندت قلمي منذ اللحظة الأولى للكتابة في القبس الدولي، وشاركت بقصائدي ومقالاتي اليومية في مواكبة مسيرة التحرير والمقاومة.
***
وعلى الصعيد الثقافي، كنت أقوم بدور ضابط الارتباط بكبار الكتّاب والمثقفين في القاهرة أو بقية العواصم العربية، من أمثال الأستاذ نجيب محفوظ ود.يوسف إدريس والأستاذ مصطفى أمين ود.فؤاد زكريا ود.سعدالدين إبراهيم ود.علي الدين هلال ود.إبراهيم صقر ود.يحيى الجمل والأستاذ فاروق جويدة والأستاذ فاروق شوشة ود.عمرو محي الدين والأستاذ حسن راضي ود.أحمد الغندور.. لكسب تأييدهم للقضية الكويتية إلى جانب المؤسسات والهيئات الحقوقية والإنسانية كاتحاد المحامين العرب، ومنظمة العفو الدولية، والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، واتحاد العمال العرب، والمنظمة العالمية للحقوق النقابية، والرابطة العربية الأمريكية.
كما كان لي شرف المشاركة في كل المسيرات وحركات الاعتصام التي قام بها المواطنون في لندن والحوارات السياسية التي تجرى أيام الآحاد في حديقة الهايد بارك اللندنية.
***
لم أهمل أيضاً الدور الإذاعي في توعية الجماهير، وحرصت أن يكون للإذاعة في القارة الأوروبية دورها في نقل موقف الكويت السياسي والرسمي والشعبي إلى الجالية العربية والإسلامية المقيمة في بريطانيا، وذلك حين قمت بالتغطية المادية لتقديم ساعة يومية في راديو (سبكتروم) يخصص لصوت الكويت.
وقد أشرف على إعداد هذا البرنامج الأخ الأستاذ بدر الرفاعي والمذيع محمد المطوع.
كما كان لي خلال فترة الاحتلال برنامج يومي في إذاعة الكويت في الدمام عنوانه (صباح الخير يا وطني)، وهو برنامج لا يزال يبث حتى الآن في إذاعة الكويت، بالإضافة إلى برنامج آخر هو عبارة عن تقرير يومي ألخص فيه جميع ما يكتب عن الكويت في الصحافة البريطانية.
***
وعلى صعيد الإعلام الخارجي سافرت إلى واشنطن بتاريخ 2/9/1990 أي بعد مرور شهر على الاحتلال، وذلك بدعوة من اتحاد الطلبة الكويتيين في الولايات المتحدة، شاركت مع الشيخ أحمد القطان، في طرح قضية الكويت في المهجر، وفي إذكاء الشعور الوطني لدى الطلبة الكويتية الذين يدرسون هناك.
وفي أكتوبر 1990، سافرت إلى القاهرة، وهي العاصمة الأولى للإعلام العربي، حيث قدمت العديد من اللقاءات الشعرية مع الشعراء المصريين المعروفين لنصرة قضية الكويت.
وفي القاهرة قمت بإصدار أول مجموعة شعرية عن الغزو (برقيات عاجلة إلى وطني)، وأول كتاب نثري عن القضية الكويتية تحت عنوان (هل تسمحون لي أن أحب وطني؟).
هذا بالإضافة إلى شريط كاسيت، سُجّل وطبع في القاهرة، ويتضمن جميع قصائدي التي كتبتها دفاعاً عن كبرياء بلادي وحريتها.
وتكررت زيارتي للقاهرة لنفس المهمة، وكان آخرها بدعوة لمؤتمر الشعر الدولي في شهر ديسمبر.
وكانت دمشق، محطة قومية مهمة على خارطة تنقلاتي الثقافية، فقد ذهبت إليها مع الصديق الشاعر الأستاذ عبد الرحمن النجار، بدعوة من مركز الإعلام الكويتي في العاصمة السورية، حيث قدمنا في صالة مكتبة الأسد، أهم ما كتبناه من شعر المقاومة، على جمهور مشتعل ثقافياً، وعربياً، وقومياً.
أما على صعيد العمل الإعلامي في أوروبا، فقد سافرت إلى جنيف، وقمت باتصالات مكثفة مع أعضاء المنظمات العالمية لحقوق الإنسان، ثم واصلت سفري إلى براغ حيث شاركت في مؤتمر المنظمة العالمية للحقوق النقابية، وقدمت ورقة للمؤتمر في موضوع الغزو العراقي للكويت.
***
الورقة الأخيرة من هذه الأوراق، أود أن أخصصها لعدد من المناضلين الأصدقاء الذين كانوا كتيبة مقاتلة على الخطوط الأولى من معركة التحرير.
وعلى رأس هذه الكتيبة المقاتلة، يأتي صديقنا الدكتور محمد الرميحي الأشبه بدينامو ثقافي وإعلامي يشتعل ليلاً ونهاراً، للتعريف بقضية الكويت، وشرعية نضالها. وهي شهادة من القلب، أقدمها لهذا الكاتب الذي حمل الكويت فوق أهدابه وزرعها في كل مكان.
وإذا كان لي أن أضع زهرة من الغار على جبين واحد من أكثر الكويتيين نقاءً، وأصالة، وموهبة، فإنني أضعها على جبين الصديق الشاعر عبد الرحمن النجار الذي كان سفيراً من أكبر سفرائنا على صعيد الكلمة الشاعرة.
ولا أنسى بطبيعة الحال هؤلاء الجنود المجهولين في عالم الصحافة الذين نذروا أقلامهم، وأعصابهم، ووقتهم للدفاع عن سيادة الكويت وتراثها، وجذورها، وحقها في الحياة.
ولن أنسى، وأنا أختم أوراقي، اللجنة الكويتية العليا، وما قامت به من أعمال لإظهار وجه الكويت الناصع، والمواطنين الكويتيين الرائعين الطيبين، الذين صبروا وصابروا، والتلاميذ الذين تركوا منازلهم وجامعاتهم ومدارسهم ومكاتبهم، وانطلقوا في شوارع العواصم الغربية، تحت المطر والثلج، والضباب والرياح، ليؤكدوا للعالم أن الوطن الصغير الجميل لن يمحى من الخارطة.. وأن الكويت لن تموت..