صباح الخير.. أيتها الحرية
بعد مئتين وعشرة أيام، وثماني ساعات، وعشرين دقيقة، وخمس ثوان، عددتها على أصابع يدي، كما يعد المساجين فتافيت الخبز، وأعقاب السجائر، وخيطان بطانياتهم..
دخلت عليّ رائحةُ الكويت من نافذة منفاي في لندن، فاخضرّ لون دمي.. وتسلّق العشب على جدران ذاكرتي..
***
ما أطول زمنَ المحبوسين في زجاجة الأنظمة الفردية..
زمن من الخَشبَ..
لا يتقدمّ.. ولا يتأخّر.. ولا يشيخ..
***
بعد مئتين وعشرة أيام..
أكلتُ فيها نصفَ أظفاري.. ونصفَ دفاتري..
استيقظت صباحاً لأجد مئات الهدايا مكوّمةً فوق سريري..
القمر الكويتي في كيس..
أبراج الكويت في كيس..
دشْدَاشَتي الصيفية في كيس..
ألعاب أولادي، ودفاترهم المدرسية في كيس..
صورة “مبارك الكبير” في كيس..
والبحر، والكورنيش، والسالمية، والجابرية، ومشرف، ودسمان، والشويخ، والفحيحيل، والأحمدي.. ووربة.. وفيلكا..
كلها كانت ملفوفة بأوراق “السولوفان” والقصب.. تنتظر إلى جانب سريري..
***
رائحة الكويت تهاجمني من كل الجهات..
رائحة الشاي والقهوة في الديوانيات تخترقني من كل مكان..
تبللني.. تثقبني.. تحفرني..
كنت أتصور قبل احتلال بلادي، أن رائحة الحرية رائحة عاطفية، وشعرية، وكمالية.. وأن الطغاة يمكنهم أن يمنعوا استيرادها بمرسوم صادر عن مجلس قيادة الثورة، أسوة بكل مستحضرات الحرية الأخرى من أقلام وأوراق ودفاتر..
ولكنني اكتشفت أن رائحة الحرية هي أقوى الروائح، وأعنفها، وأكثرها التصاقاً بأجسادنا وأرواحنا..
بعد مئتين وعشرة أيام على اختطافها..
عادت إلينا الكويت وجهاً مغسولاً بالدمع والحزن والكبرياء..
عادت منهكةً، محطمة، ممزقة الثياب، دامية الشفتين.. لن ندخل في تفاصيل خطفها.. ولن نسجل إفادتها، ولن نجري معها حواراً صحافياً.. لأنها تعاني من صدمة عصبية قوية، ولأن حالتها النفسية لا تسمح لها بالكلام مع أحد..
ثم لن نسألها عن اسم المعتدي، وعنوانه، وأوصافه.. فهو معروف جداً.. ومشهور جداً.. ويظهر كل ليلة على قناة الـ C.N.N.
***
بعد مئتين وعشرة أيام..
عادت إلينا الكويت، حافيةً، جائعةً، مصابةً بفقر الدم، بعد أن جرّدها الخاطفون من حقيبة يدها، وخاتم زواجها، وآخر خمسة دنانير كانت في جيبها..
بعد مئتين وعشرة أيام..
هربتِ الكويت من زوجها الفظّ.. المتسلّط.. والعدواني.. الذي تزوّجها رغم أنفها بقوة السلاح.. وصواريخ سكود.. والكيميائي المزدوج..