صواريخ لا عقل لها..
صواريخ (الحسين) و(العباس) التي يطلقها النظام العراقي، في حربه الانتحارية، أضاعت عقلها السياسي، والإستراتيجي، والقومي، فلم تعد تميز بين اللون الأبيض واللون الأسود، وبين المباح والمحظور، وبين المعقول واللامعقول.
لقد تساوى لديها الماء والحجر..
وتساوى العرب والكيان الصهيوني..
وتساوت المدن التي تعبد الرحمن، والمدن التي تعبد الشيطان..
وإلا فمن كان يصدق أن مطلق الصواريخ قد أصيب بعمى الألوان، فلم يعد يفرق بين مدينة تل أبيب، ومدينة الرياض.. وبين مدينة حيفا ومدينة الظهران.. وبين سكان حارة (اليهود).. وسكان (حارة المسلمين).
وإذا كان صاروخ (الحسين) يريد أن ينتقم من إسحق شامير.. فلماذا يحاول قتل ذرية الحسين؟؟
وإذا كان يريد أن يصيب حائط المبكى.. وقبر دافيد بن غوريون.. فلماذا يستهدف قبر الرسول محمد بن عبد الله؟؟
وإذا كانت الكويت هي ابنة العراق الشرعية التي طال غيابها عن الوطن الأم، فلماذا أمر النظام العراقي بإشعال النار في آبار النفط ومصافيه في الكويت؟
وهل ثمة أب في الدنيا يضرم النار في ثياب ابنته الغالية؟؟
لقد كشفت حرب الخليج عن التناقض الصارخ بين الأيديولوجية والتطبيق، وبين الفكر والسلوك، وبين النظرية والممارسة.
فالنظام العراقي الذي أطلق في بداية الأزمة عشرات الشعارات البراقة، وغلّفها مرة بالفكر الوحدوي، ومرة بالبرقع الديني، ومرة بالجهاد الإسلامي، لم يلبث أن انقلب في الساعات الأولى من الحرب على كل الشعارات التي طرحها لكسب الشارع العربي والإسلامي، ووجّه صواريخه بالعدل والمساواة إلى جميع الاتجاهات، والعواصم، دون تمييز بين الأهداف الصهيونية، والأهداف العربية والإسلامية..
وبالتالي، فإن العرب تلقوا من صواريخ النظام العراقي أضعاف ما تلقته إسرائيل، من هدايا الموت والدمار.
إنه لم يحدث في التاريخ العربي أن ضاع الصواب، وانطفأ العقل، ومات البصر والبصيرة، كما يحدث في هذه الأيام.
لم يحدث أبداً، أن يشرب العربي من دم العربي حتى يسكر..
وأن يحرق العربي جسد أخيه العربي، ويتلذذ برائحة الشواء..
فالصواريخ العربية تسقط فوق رؤوس العرب، والمدافع العربية تدك عواصمهم، والمنطقة كلها كرة مشتعلة تتدحرج نحو الهاوية، والإنسان العربي مسحوق كالفأرة بين أقدام المقاتلين..
هذا هو الخراب الكبير الذي لا خراب بعده..
وهذا هو الموت الأخير، الذي لا قيامة بعده..
أية حرب هذه.. تلك التي غطسنا فيها النظام العراقي رغم أنوفنا؟
هل هي حرب لمجد العرب، أم هي حرب لكسر رؤوسهم؟
هل هي ولادة جديدة للأمة العربية، أم هي بداية لانقراضها؟
هل هي عمل توحيدي، أم هي عمل تخريبي، وتجزيئي، وانفصالي من الطراز الأول؟
هل هي معركة الغرور القومي، أم معركة الغرور الشخصي؟
وأخيراً، هل هي معركة تاريخية -كما يقول الذي أشعلها- أم هي معركة لمحونا من كتاب التاريخ؟
إن العراق بلد عربي، عريق، ومتحضر، وحبيب علينا ككل الدول العربية، فلماذا وضعه النظام العراقي في مرمى النار؟.. ولماذا تسبب في إحراق مدنه، ومصانعه، واقتصاده، وثرواته، ومشاريعه التنموية، وطموحه العلمي، ونهضته العمرانية وأحلامه الحضارية الكبرى التي كانت جزءاً من أحلامنا لدخول القرن الواحد والعشرين؟ وليس ثمة عربي واحد يشمت بسقوط العراق، فهو جزء لا يتجزأ من كتاب التاريخ العربي الكبير.
وإذا كان رجل عراقي واحد قد ركب رأسه، واعتدى بقوة السلاح على أهله وأبناء عمومته، واستباح سيادتهم، وبيوتهم وأرزاقهم، فإن هذا الرجل ونظامه هو الذي يحاسب على فعلته.
أما إسرائيل فهي الرابحة الأولى في حرب الخليج.
إنها تتلقى صواريخ (سكود) بفرح وشوق عظيمين، كأنها تتلقى قالباً من الحلوى، أو باقة من الأزهار..
فما دام كل صاروخ يسقط عليها، يدرُّ عليها مليار دولار، فلماذا ترفض نعمة النظام العراقي عليها؟
وما دامت الثمار الطازجة كلها تسقط في سلة الكيان الصهيوني، وما دام العالم كله أصبح مقتنعاً بأن إسرائيل ليست سوى حمامة مسكينة ومسالمة وقعت بين مخالب العرب، وما دامت القضية الفلسطينية قد تراجعت إلى الوراء.. وثورة الحجارة قد ضربت على رأسها.. وإقامة الدولة الفلسطينية أصبحت في عالم التمنيات، والهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي تسير حسب المخطط لها، دون اعتراض ودون ضجة إعلامية..
وإذا كانت كل هذه البركات والنعم قد هبطت على إسرائيل مع صواريخ (الحسين) و(العباس).. ولم تترك في شوارع تل أبيب سوى حفرة صغيرة.. وسيارة محترقة.. وزجاج مكسور.. فما أرخص الثمن!!..
إن (صمت) إسرائيل، وبرود أعصابها، وامتناعها عن أخذ الثأر أكسبها تقدير العالم وإعجابه، وسهّل مهمة اللوبي اليهودي في كل مكان في العالم، بحيث أصبحت (حرفة الشحاذة) الإسرائيلية أكثر نشاطاً وازدهاراً.. وأصبحت دول العالم تتسابق (لبخششة) إسرائيل ببلايين الدولارات.. لقاء أدبها، وحسن سلوكها..
لقد ربحت إسرائيل خلال الأسبوع الأول من حرب الخليج، أرباحاً خرافية، دبلوماسياً، وسياسياً، ومالياً، وعسكرياً..
كان آخرها هدية صواريخ باتريوت إليها..
هذه هي حصيلة (المفرقعات) التي أطلقتها القيادة العراقية لتحرير فلسطين، والفلسطينيين.
(مفرقعات).. حولتها إسرائيل بذكائها إلى مشروع استثماري وتجاري وابتزازي، وإلى حائط مبكى جديد تذرف عليه دموعها.
أما نحن فلا نزال نتفرج ببلاهة على حفلة الألعاب النارية.. وهكذا تتصرف إسرائيل بذكائها المعروف..
ونتصرف نحن بغبائنا المعروف..
***
تتصور القيادة العراقية أنها بهذه المفرقعات الإعلامية تستطيع أن تحرض الشارع العربي والإسلامي..
ولكن الذي حدث، أن هذه المفرقعات لم تنفجر في خندق الأعداء، وإنما انفجرت في ثيابنا.. ولم تؤد إلى تحرير شبر واحد من فلسطين المحتلة، وإنما أدت إلى تشديد قبضة إسرائيل عليها.. ولم تحرك قضية إنشاء الدولة الفلسطينية، بل أدخلتها في ملفات النسيان..
هذا هو المردود السياسي، والإستراتيجي، والإعلامي لهذه المفرقعات، التي تركت حفرة هنا.. وحفرة هناك.. ولكنها لم تسقط شعرة واحدة من رأس إسرائيل..
إن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتم بهذا الشكل العشوائي والانفعالي، والنضال من أجل استعادتها لا بد أن يرتكز على إستراتيجية عربية قومية ووحدوية توضع فيها جميع إمكانيات الأمة العسكرية، والبشرية، والاقتصادية على أرض المعركة.
أما استعمال فلسطين كمادة إعلامية، واستعراضية ودعائية على النحو الذي يلجأ إليه النظام العراقي، من أجل خلط الأوراق، وبلبلة الشارع العربي، وتهييج المشاعر الإسلامية والعربية، فلعبة مكشوفة لا تنطلي على أحد.. لأن الذي احتل الكويت بقوة السلاح، لا يحق له أن ينتقد إسرائيل إذا احتلت فلسطين بقوة السلاح أيضاً..
إن كل الاحتلالات تتشابه شكلاً وموضوعاً..
لذلك فإن النظام العراقي، باحتلاله الكويت، لم يعد مسموحاً له أن يقيم الدعوى على إسرائيل بتهمة احتلال فلسطين..
أما المفرقعات الانتخابية التي يطلقها كل ليلة في كل الاتجاهات فلن تغير شيئاً.. ولن تمنع الخراب.. خراب العقل العربي، والمستقبل العربي..
إنني لا أعترض على الصواريخ العراقية كجزء من السلاح العربي الذي ندّخره للمعركة الكبرى، وإنما أعترض على توقيتها.. وعلى توظيفها للخروج من مأزق شخصي.. ومشكلة فردية..
فلقد كان بإمكان هذه الصواريخ أن تظهر في مناسبات قومية كثيرة.. ابتداء من حرب 1967 ومروراً بحرب 1973، وانتهاء باجتياح إسرائيل للبنان عام 1982، وضرب المفاعل النووي العراقي، ولكنها مع الأسف كانت خلال عقدين من الزمن في إجازة طويلة..
لذلك فإن ظهورها الآن، أي بعد احتلال الكويت، وانقسام العرب إلى عربين، وتناقض المواقف، وصراع الأيديولوجيات.. يبدو مصطنعاً ومتأخراً ومناقضاً للتوقيت القومي.
صحيح أن إطلاق الصواريخ قد يحرك الخيال العربي، ويحرض الأحلام القومية المكبوتة، ويدغدغ غرائز الثأر لدى العرب، الذين طالما تعرضوا للاجتياح والغزو والاحتلال والإذلال..
لكنّ المعركة مع إسرائيل لن تنجح إلا إذا كانت معركة شمولية يستنفر لها العرب جميع طاقاتهم البشرية والاقتصادية والعلمية والثقافية والحضارية..
أما الصواريخ الفردية التي تطلق لإرضاء غرور شخص ما.. أو نرجسية نظام ما.. فلن تربح حرباً.. ولن تحرر أرضاً..