رامبو.. يُصوِّر فيلماً في الخليج
ليس هذا المقال عن فن السينما، كما قد يوحي العنوان، بقدر ما هو مقال عن السياسة التي تحولت مع الأيام إلى سينما.. وإلى فيلم طويل متعب للعيون والأعصاب..
العنوان مقتبس من تصريح لوزير الدفاع البريطاني الأسبق دينيس هيلي من حزب العمال، قال: إن الرئيس الأمريكي يتعامل مع أزمة الخليج بمنطق (رامبو).
ورامبو كما تعلمون هو فيلم أمريكي مشهور حاول فيه الممثل سيلفستر ستالون أن يعيد الاعتبار إلى المقاتل الأمريكي في حرب فيتنام.
والواقع، أن المشهد الخليجي لا يزال، بعد خمسة أشهر من الاحتلال العراقي للكويت، مشهداً سينمائياً بكل ما ينطوي عليه فن السينما، من ديكورات، وإضاءة، ومكياج، وملابس تنكرية، ومؤثرات صوتية، وخدع سينمائية.
وإذا كانت الأفلام عادة لها بداية ولها نهاية، ولها سيناريو مكتوب وعقدة درامية يحاول المؤلف أن يجد حلاً لها في نهاية الفيلم، فإن فيلم الخليج يخرج عن قواعد الفن السينمائي، فله بداية وليس له نهاية، ولا يعتمد على أي سيناريو جاهز، أو نص مكتوب، لذلك ترى الممثلين يخرجون على النص.. و(يرتجلون) نصوصاً من عندهم هي أقرب للهلوسة، والتشنجات العصبية.
خمسة أشهر مرت، ولا يزال الارتجال السياسي والإعلامي سيد المواقف، ولا يزال (الردح التلفزيوني) مستمراً على جميع الأقنية بين رامبو الأمريكي.. ونبوخذ نصر العراقي..
الأول يستعرض عضلاته على طريقة محمد علي كلاي.. والثاني يبرم شواربه على طريقة الحجاج بن يوسف الثقفي..
أي أن الحرب بين رامبو ونبوخذنصّر.. لم تخرج حتى الآن عن كونها (خناقة) تشابه الخناقات التي تجري بين (فتوات) مصر.. أو (قبضايات) لبنان، لا تتجاوز الاشتباك بالأيدي أو استخدام الخيزرانات.. أو الشتائم..
وفي مثل هذه الخناقات السينمائية لا يسقط أحد قتيلاً، أو جريحاً، ولكن الجرحى والقتلى عادة من عابري السبيل، أو وسطاء الخير الذين يحاولون فك الاشتباك بين المتقاتلين. وإذا كانت أمريكا هي أم السينما، ورائدة هذا الفن العظيم، باعتراف الجميع، فإن جميع من شاهدوا فيلمها الأخير عن أزمة الخليج، من نقاد سينمائيين، وخبراء في شؤون المسرح، أجمعوا على أن ما شاهدوه لم يكن أكثر من (سينما أونطة)، كما يقول إخواننا المصريون عن الأفلام الفاشلة حواراً.. وإخراجاً.. وتمثيلاً.
وإذا كانت الولايات المتحدة متقدمة ورائدة في صناعة السينما، فليس من الضروري أبداً أن تكون متقدمة في صناعة السياسة الخارجية، وإدارة أزمات العالم، فالسينما شيء.. وتقرير مصائر الأمم شيء آخر..
والمعارك الحربية على الشاشة شيء.. والمعارك على الأرض شيء آخر.. والانتصارات في (هوليود).. أسهل بكثير من الانتصارات في الصحارى العربية.
إن الأفلام الناجحة لا تستمد عناصرها من الخيال، والخرافة، والبطولات الوهمية فحسب، وإنما تأخذ أهميتها من أرض الواقع، وتحليل عناصره السياسية والاجتماعية والنفسية، وقراءة تاريخ الشعوب.
لقد قاتل رامبو (سينمائياً).. حتى انتصر على أعدائه جميعاً.. واجترح من الخوارق، والعجائب، والمعجزات، ما يعجز عنه أي كائن بشري، وقام بمهمات حربية يعجز حتى الجن عن القيام بمثلها..
وقد أدهشت مغامرات رامبو محبي السينما في كل مكان، إلى الحد الذي دفع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان إلى اعتباره نموذجاً للبطل القومي الأمريكي.
وعندما اشتعلت أزمة الخليج، وطارت دولة الكويت من الخريطة، وأرسلت أمريكا بوارجها البحرية، وآلتها العسكرية الجبارة إلى المنطقة، عادت إلى أذهاننا على الفور صورة رامبو بجسمه الأولمبي، وعضلاته المفتولة، وعينيه اللتين يقدح منهما الشرر..
وتصورنا أن رامبو سوف يخرج (الزير من البير) كما فعل في الفيلم.. ويطحن الدبابات بقبضة يده.. ويأكل المعتدين على سيادة الكويت بلا ملح.. ويعيد الكويتيين إلى ديرتهم.. وديوانياتهم المهجورة..
ولكن الآمال ما لبثت أن تراجعت.. واكتشفنا أن رامبو الذي يأكل الزجاج في إستوديوهات هوليود.. هو غير رامبو الذي يأكل الجراد المشوي في الربع الخالي.. كما اكتشفنا أن البطولات التي يصنعها مخرجو الأفلام في شركة مترو غولدين ماير.. تختلف تماماً عن البطولات التي يصنعها مركز الدراسات الإستراتيجية في البنتاغون.
***
لماذا غامت صورة رامبو الأمريكي في الأذهان؟
ولماذا بدأ الكويتيون المتناثرون كالغبار على سطح الكرة الأرضية، يضجرون من رتابة الفيلم.. وعدم كفاءة الممثلين، وتشعب الحوار، وهذا التناقض الدراماتيكي بين القادة العسكريين حول كفاءة القوات الأمريكية في الخليج، وجاهزيتها للقتال، فهذا يريد القتال في الشتاء.. وذلك يريده في الربيع.. والثالث يريده في الخريف.. والرابع لا يؤمن بالحرب في أي فصل من فصول السنة الميلادية.. أو الشمسية.. أو القمرية.. أو الصينية.. وإنما يريد أن يرجع في أقرب فرصة إلى بلده.. ليأكل وجبة سريعة عند (ماكدونالد)..
ثم تأتي أخبار لوجستية من جبهة الخليج لتزيد الأمر عبثية وسخرية، قائلة إن المعدات الإلكترونية المتطورة التي حملتها معها القوات المشتركة لم يناسبها الطقس الحار، والغبار الصحراوي، والعواصف الرملية.. فتحولت إلى أجساد معدنية، وأكوام من الخردة، لا تستجيب لتوسلات وأوامر الكومبيوتر.. بحيث صار الصاروخ يصعد إلى أسفل.. والطائرة العمودية تطلع ولا تنزل.. والرادارات لا تعرف مكان النجوم والعصافير.. وحاملات الطائرات بحاجة إلى من يحملها.. والمدرعات أصبحت بيتاً للعقارب والثعابين.
وقد تكون هذه التقارير جزءاً من الحرب النفسية.. ولكن مهما كانت نسبة الصدق فيها، فإنها لا تدعو إلى البهجة والانشراح.
هذا القلق النفسي، والعسكري، والإستراتيجي لدى رامبو هو الذي أعطى نبوخذنصّر العراقي القدرة على المناورة والمماطلة، واللعب بالوقت، والتشكيك بقدرات رامبو على تحقيق أي انتصار حربي.
ويبدو أن نبوخذنصّر، قد اكتشف نقاط الضعف في جسد القوات الأمريكية والأوروبية المشتركة، فبدأ يتحدث بلغة الكيمياء، والجراثيم، والأوبئة، والأرض المحروقة، بحيث لا يبقى من الخليج حجر فوق حجر، ولا يبقى من آبار النفط قطرة واحدة يستفيد منها الغرب في تشغيل مصانعه، والمحافظة على مستواه الحضاري.
ولما كانت الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات قد جاءت إلى الخليج لحماية مصالحها الاقتصادية أولاً.. وتأمين مخزونها النفطي ثانياً.. وتحرير الكويت عاشراً.. فلا بد قبل اتخاذ قرار الحرب من التدقيق في حساب الربح والخسارة، ثم إن الحديث عن حجم الخسائر البشرية التي سوف تتكبدها القوات المشتركة في الساعات الأولى من اندلاع الحرب، لا بد له من أن يُحدث ردة فعل عميقة في المجتمع الأمريكي والأوروبي لا يمكن للحكومات أن تتجاهلها.
من هنا كانت حيرة (رامبو).. وقلقه.. وتردده في اتخاذ القرار.. ومن هنا كان عناد نبوخذنصّر.. وغروره.. وتشبثه بأفكاره ومواقفه، وإصراره على إحراق العالم، قبل أن تصل النار إليه.
إن الحوار الجاري بين رامبو الأمريكي.. ونبوخذنصّر العراقي هو في حقيقته حوار بين مدير مصرف ومقامر..
مدير المصرف يحسبها بالدراهم والبنسات والملاليم، ويتقاضى من زبائنه الأتعاب وكلفة الدفاع عن نفط الخليج الذي له منه حصة الأسد، ويقدم فواتير يومية عن كل زجاجة كوكا كولا يشربها جنوده في الخليج..
والمقامر.. لا يعرف شيئاً من جدول الجمع والطرح والقسمة، فهو قد استولى بالمسدس والمدفع الرشاش على جميع بنوك الكويت، وكسر خزائنها، ووضع أرصدتها في جيبه، وبالتالي فهو ليس بحاجة إلى أي مستشار مالي، أو أي محاسب قانوني..
رامبو.. لديه كونغرس، ومجلس شيوخ، وقوانين فيدرالية.. تحاسبه على كل غلطة..
والرئيس صدام حسين.. لا يستشير سوى صدام حسين.. وعندما يلتقي بأعضاء مجلس قيادة الثورة، أو القيادة القومية أو القطرية لحزب البعث، فإنه يلتقي بعشرين أو ثلاثين نسخة من صدام حسين يشبهونه كالتوائم.. حتى ليصعب عليك أن تفرق بين وزير الدفاع، أو وزير الخارجية، أو وزير الإعلام، أو وزير الداخلية، فكلهم مسحوبون على الآلة الناسخة..
وهكذا فإن الكويت، واقعة بين نارين: نار صاحب المصرف الذي لا يفكر إلا بالكمبيوتر ولا يحارب إلا بالكمبيوتر، ولا يرسل جندياً واحداً إلى الخليج إلا بعد قبض الفاتورة مع فوائدها.
ونار المقامر، الذي يقود سيارة مفخخة ووراءه في المقعد الخلفي مئتا مليون عربي، لا يعرفون إلى أين؟
الكويتيون الذين ودعوا سنة 1990 وهم في منافيهم، يشعرون أن بلادهم قد تحرّرت (سينمائياً).. أما تحرير الأرض فلا يزال علمه عند الله.. وبانتظار الجنرال رامبو..