الرسالة الأولى
يا أكثر من حبيبي..
إنه الوضوء بمياه ضوئك..
إنه الدخول إلى عالمك والاحتراق بشموعك..
إنه الإسراء في غمامة من البخور والصندل..
إنه أجراس شوقي التي تقرع..
إنه الجلوس تحت قباب صمتك.. وتقبيل أصابعك..
إذا كان الحب جنة.. فلا مطلب لي إلا دخول جنتك..
وإذا كان الحب استشهاداً.. فإنني مستعدة أن أستغني
عن حياتي في سبيل حياتك..
شكراً لحبك.. الذي كشف عن بصري وبصيرتي..
إنه الشرارة السماوية التي أضاءت ليلنا..
يا الذي يحشرني في خمسة وأربعين سنتيمتراً من مساحة الشوق..
ما أحلى اعتقالك بين الهدب والهدب.. وبين الشفتين
ما أحلى احتلالك من جهاتك الأربع..
التصق بي أكثر لنسمع الأخبار..
العالم كله في حالة هستيريا..
البيض يقتلون السود.. والعرب يقتلون الفلسطينيين..
والفلسطينيون يقتلون بعضهم..
والدولار يقتل فقراء العالم الثالث..
التصق بي أكثر فالعالم غابة كراهية.. وأنا الوحيدة في
هذا العالم التي تحبك..
ادخل في حياتي أكثر وانعجن بي أكثر..
فأنت جزيرة السلام الوحيدة التي بقيت في بحر
الجريمة والقتل والإرهاب.
يا سيد هذا العالم..
أصبحت أستحيي منك إذا قلت أحبك..
فهذا تعبير صغير جداً.. على رجل أصبح يحتل مساحة
الكون ويحتلني..
منذ تلاقينا في القصر الأبيض.. تكهرب العالم..
لا أدري ما حصل بالضبط يومئذ.
المطر المحبوس منذ سنين أغرقنا.. وأغرق القصر..
والبرق الذي كان مخبوءاً تحت ثيابنا..
اشتعل فجأةً وأحرق الستائر..
أخذتني إلى صدرك دون تصنع.. وعانقتني دون أي
إنذار سابق.. فقرارك اتخذته منذ سبتمبر 1960 ولا زال سارياً.
شكراً لك لأنك اخترتني..
مرَّ الزمن وأنا مستلقية على ظهري..
كانت هذه فرصة طيبة للدخول في حوار مع نفسي
ووضع مخطط للمستقبل..
الجديد في تفكيري أنني لا أستطيع أن أتصور
مستقبلاً لا تكون فيه ولا أستطيع أن أتعايش مع مكان
لا تكون موجوداً فيه..
بل لا أستطيع أن أحدد خياراتي إلا في حضورك..
هذه حالة جميلة جداً أمرّ بها.. تؤكد لي أنك أصبحت
أكثر بكثير من حبيب وزوج..
أكثر بكثير من وطن..
أكثر بكثير من انتماء..
هل تزعل عندما أقول لك إن الزمن الذي قضيته
قبلي.. هو زمن مسروق مني..؟
هل تعرف..؟ وهذا سر أعلنه للمرة الأولى أنني فكرت
بأن أقيم عليك الدعوى بتهمة أنك كنت لغيري
قبل أن ترتبط بي..
أشياء جنونية.. إنما غيرة المرأة..
سلاماً يا جبلاً من الكبرياء..
سلاماً يا أيها الرجل الذي اختصر العالم..
الرسالة الثانية
يا سلطان قلبي..
من أجل جميع سلاطين الدولة العثمانية.. ومن أجل من ولدتك..
إذا كنت تعتقد أني خدمت إمبراطوريتك
بإخلاص وشرف.. فإنني أنتظر على الأقل وسام
تقدير على إنجازاتي..
فباسم كل ما يمثله اللون الأخضر لك ولي أدعوك إلى
الصعود إلى المركب مرة ثانية..
فالبحر جميل.. والآفاق التي لم نعرفها أروع من الآفاق
التي عرفناها..
والمشاوير التي لم نمشها أحلى من المشاوير
التي مشيناها..
المهم أن تعرف كم أحبك..
وكم العالم ضيق من دون عينيك..
هفواتي معك كثيرة.. وحماقاتي كثيرة..
ولكن طفولتي تشفع لي عندك..
هل يطاوعك قلبك كأب -وأنت أبي- أن تقطع حبل
المشيمة الذي يربطني بك..
وتتركني في غربة الليل والزمهرير..
بلا شراب.. ولا طعام..
أحاول أن أسحب من لحمي خنجراً طعنت به نفسي..
أحاول أن أصلح المركب المثقوب..
أحاول أن ألحق بالقطارات الذاهبة إلى عينيك..
أحاول أن ألصق الزمن المكسور..
أحاول أن أقنعك أنني لست مسؤولة..
لكنني طفلة.. والطفلة لا تُسأل عن الأواني التي كسرتها..
أكيد أنني تغّيرت.. وأكيد أنك تغيّرت..
ذوقي تغيّر.. إحساسي تغيّر.. مواقفي تغيرت..
سلوكي مع الآخرين تغير.. وكذلك أنت..
أنت أعدت صياغة ذوقي وأعدت صياغتي..
ونقلتني من المرحلة السيبيرية..
إلى المرحلة الاستوائية..
وأعتقد أن الحب الحقيقي هو إعادة صياغة من نحبهّم
وإعادة تشكيلهم..
أنت تغيّرت كثيراً.. وأنا تغيّرت كثيراً..
أنت غيّرتني.. وأنا غيّرتك..
أنا أعدت صياغتك، وأنت أعدت صياغتي..
ولأننا تداخلنا، وتوحدنا، وانعجنّا ببعضنا، نجحت
تجربتنا كما لم تنجح تجارب الآخرين..
وصرنا ملوكاً على عرش الحب حين بقي الآخرون في
عداد الرعايا..
إنني أعرف أننا عانينا كثيراً.. واصطدمنا كثيراً..
وغضبنا كثيراً..
ولكن كل هذا كان جزءاً من عملية الخلق..
ومن عملية التكوين..
إن ولادة الأطفال فيها كثير من التمزق، والوجع،
والنـزف، والصراخ، وكذلك ولادة الحب العظيم..
فأحمد الله.. أنه رزقنا طفلاً من أجمل أطفال العالم..
لا تنتقد اشتعالي، وبروقي، ورعودي،
فلولا عواصف الشتاء ما طلع الربيع..
ولولا الرياح ما وصلت المراكب..
أهتم بطفلنا الرائع الذي صار عمره عشرين سنة فليس
في العالم كله طفل أجمل من طفلنا الجميل..
أحبك.. ولا أستأذنك.. ولا أستشيرك..
ولا أطلب من أي سلطة تأشيرة الدخول إليك..
فأنت البلاد التي ولدت فيها..
وأريد أن أموت على ترابها..
فهل تقبلني لاجئة سياسية إلى عينيك؟
الرسالة الثالثة
اليوم ليس 4 يوليو
اليوم ليس 14 يوليو
ولا هو 23 يوليو
التاريخ هو 18 سبتمبر..
حيث ألوف الرايات ارتفعت..
وألوف الحمائم طارت..
وحيث أخذتني إلى ذراعيك وأنت تردد ما كان
يقوله أبي: Happy to see you
آه.. كم أُحبُّك أيُّها الرجل الذي فتح لي أبواب جنته..
وقطف لي من حديقته أجمل وردة.. وقال لي مبروك..
أنت تستحقينهـا.. وهـي تستحقك.. ثم طرت بها
إلى الضباعية فوراً بعد جلسة المجلس الأعلى للعائلة..
لو كنت أعرف أن الغداء على شرفة ذلك البيت المتعلق
بخاصرة البحر.. سوف يغير مسيرة الكون لانضممت
إلى عشاق الضباعية قبل ولادتي.
ولو كنت أعرف أن الدجاج المشوي على الفحم والخبز
الإيراني سيفتح شرايين قلبي ويجعل الأرانب في دمي
تركض نحوك بحماسة منقطعة النظير لأعطيتك
مفاتيح شراييني..
لو كنت أعرف أن الأرانب في دمي تُحبَّك إلى هذا الحد
لأخذتهـا كل يوم إلى هذا الشاطئ الجميل..
يا سيد كل الأمكنة..
لقد كنت دائماً أحلم بموسم التزهير.. أو البرعمة..
وأسأل ربي أن يكرمني بزهرة “شكل ثاني”..
بقمر على شكلك..
وها هو الربيع قد جاء بأحمره وأخضره وأزرقه
وزقزقة عصافيره..
ولكنني لا أزال خائفة من الريح..
وخائفة من الثعالب والذئاب وبنات آوى..
على عناقيدي..
أرجوك.. قل لي بأنك سعيد مثلي..
قل لي بأنك ستحميه كما حميتني من الثعالب
وبنات آوى..
أنا مجنونة بك.. وبه.. فهل أنت على مستوى جنوني؟
تتغير فوراً فصيلة دمي..
ويشتعل البرق في غرفتي وثيابي..
أشعر برغبة طاغية في أن أصرخ أَحبُّكما.. أَحبُّكما..
هل تتهمني بالنرجسية.. وعبادة الذات؟
أنت وهو.. ذاتي..
أنت وهو.. قضيتي..
أنت وهو.. غدي..
من ذا الذي يتصور أن التي عاشت وحيدة ستتحول
إلى قبيلة من الأولاد والبنات!!
ماذا أقول لك عن حالتي؟
إنني محتشدة بالفرح والألوان.. كأنني معرض أزهار..
ومحتشدة بالحلاوة كأنني شجرة مانغو..
ومحتشدة بالتطلعات كأنني طارق بن زياد..
وقوية إلى درجة أستطيع معها أن أشق البحر..
أنت لا تتصور هذا الشعور بالخلود عند مقاتلي الإغريق،
وأنا معك مقاتل إغريقي تفتح لي طروادة أبوابها
وتستقبلني بأكاليل الغار..
أنت تعرف أن هذا شعور مختلف.. مختلف.. مختلف.
فعندما يصل إنسان بحبه لرجل إلى درجة الانشطار
والتقمص بكل مسامة من مساماته..
عندما يحدث هذا الاتحاد الكامل، فإن كل شجرة تنمو
تحت مطر علاقتنا تكون من أشجار الجنة..
آه.. يا ربي.. اجعل عمر هذه الأشجار طويلاً..
وساعدها على النمو.. والتفتح.. واحمها من الرياح..
ومن عيون الحاسدين والمعقدين والمتكبرين..
يا رب العالمين..
احمِ يا رب شجرة حبنا.. فهي واحدة من أجمل
الأشجار التي زرعتها في هذه الصحراء..
الرسالة الرابعة
قمري..
العمال يشتغلون بالموكيت وصباغة الجدران..
فجأة تلتمع صورة طفلي كالبرق في ذاكرتي..
الموكيت الأزرق يمده العمال على الأرض..
وأنا أتدحرج مع طفلي غير مكترثة بأحد..
يركب على ظهري
يركب على ظهرك
يحولني إلى خروف
يحولك إلى حصان..
ما هذه السلطة التي يملكها هذا الجنين
الذي لم أره بعد..
كيف يسحبني من أذني.. ويطلب أن يلعب معي..
من زمان لم ألعب مع أحد..
ولم أشعر بطفولتي إلا هذه الأيام..
كنت وحيدة أمي وأبي.. وأخي الذي يصغرني ابتعث
للدراسة في كلية فيكتوريا وهو لم يتجاوز الستة
أعوام..
جنيني..
هالو.. هالو.. يا أحلى ما في التاريخ..
وأجمل قصيدة في الدنيا..
نحن على موعد معك قريباً قريباً إن شاء الله..
على موعد مع العينين العسليتين.. والشعر الأسود..
على موعد مع القمر..
إنني متأكدة من أنك ستكون أو ستكونين أجمل قلادة..
فإن امتزاج حبنا سيرسم قوس قزح.. ربما ستجد أو
ستجدين صعوبة في قراءة كلماتي فأنت لا تزال في
طور التكوين..
ولكنك بسرعة ستفهم اللغة التي أكتب إليك بها..
ألست ابن الحب الواضح..
ألست خلاصة ذلك التاريخ العظيم؟ ألست خلاصة
النار، واللهفة والحنان، والعشق.. والصواعق،
والبروق.. والحوارات الحميمة.. والخلافات الطارئة؟
يا أنقى الأطفال
لماذا لا تكون جميلاً ورائعاً؟
فأبوك لمّاح ومتفوق وشعلة ذكاء..
وأمك يعرف الجميع اسمها..
لا أستطيع، وأنت متضايق ومحشور بين جدران الرحم،
أن أقول لك كل شيء.. وأروي لك القصة.. فالقصة
هي من أجمل قصص هذا العصر..
بدأت بالشهادة الثانوية في عام 1959 عندما سقطت
عين والدك على اسمي في سجل المتفوقات
وبدأت القصة.
استدعى والدي رحمه الله وسأله عني.. وخطبني..
وجاء والدي فرحاً يحمل إليّ الخبر ولكنه قال لي إني
قد أخبرته أن الكلمة الأولى والأخيرة لك.
كنت أحلم بالفارس..
هو فارس فرسان آل الصباح جاء ليخطفني
على جواد أبيض..
وكان الزواج الذي أثمر ورداً وياسميناً وعطراً..
ليس هذا وقت الاعتراف، ولكنك عندما تكبر ستعرف
كم استغرقت صياغتك من خيوط حرير وحبات لؤلؤ..
وستعرف معنى الصراع من أجل تكوين وردة..
عندما تكبر، ستعرف أنك تشكلت من زواج الغمام
والريح فوق مياه الخليج..
أنت طفل استثنائي.. لم تتشكل كالآخرين..
وإنما انفجرت كالبرق في أرض النبوءات..
إن موعد الوصول قد قرب.. المهم أن تعرف أن الغرفة
مكتظة بملايين الأزهار والحمائم والمستقبلين
والدكتور لطف الله على رأس المستقبلين..
وأنا محتشدة بالفرح والخوف والدموع..
بانتظار وصولك لآخذك بين ذراعي ودموعي وأهتف
كما كان يهتف أبي:
Happy to see you …
Happy to see you …
Happy to see you …
سامحوني على هلوستي.. وشطحاتي.. وأحلامي الملونة
سامحوني..
فأنا امرأة..
فالذين يربحون جائزة المليون.. يتحولون في لحظة
إلى بهاليل..
سامحوني.. إذا سبقت أحلامي..
فأنا أرى الأشياء بكل تفاصيلها، وغنى ألوانها، ودقة زواياها..
أرى بيتنا مزداناً بالقناديل كحي السيدة زينب
في ليالي رمضان..
أخرج من أحلامي، وأنا مغتسلة بأضواء الفجر..
ومضمخة بأمطار سبتمبر.. وعلى لساني شيء من طعم
الجوز والعسل وحب الهال..
أخرج من أحلامي.. وأنا أجر خلفي قافلة من النجوم
والحمائم وأحجار الفيروز..
أخرج من أحلامي.. وأنا أمسك بيدي اليمنى يد
مبارك.. وبيدي اليسرى يد التاريخ..
فشكراً لك لأنك حفظت التاريخ..
وشكراً لك لأنك أعطيتني مبارك شكلاً.. ورائحة وحضوراً..
الرسالة الخامسة
يا من أسميه وطني..
من كثرة ما أحبك.. أعلن حبك..
ومن كثرة ما أنا مشتاقة إلى شمسك وبحرك، أريد أن
تنشب أظفاري في لحم الزمن..
منذ طفولتي.. تربيت على اسمك..
وشربت من أخبار فروسيتك..
ومنذ شبابي تعلمت اسمك في الأناشيد الوطنية..
وعلموني جغرافية عينيك نهراً نهراً.. وغابة غابة..
وشجرة شجرة.. حتى صرت أعرف خطوط الطول
وأعرف خطوط العرض عن ظهر قلب.
من أجلك دخلت المدرسة الداخلية.. لمدة 99 سنة
قابلة للتجديد..
من أجل عينيك ذهبت إلى آخر الحدود
يا وطن الأوطان.
النافذة مفتوحة لنسيم منتصف الليل..
ونسبة الشوق في دمي 90 بالمئة
ونسبة الجنون في دمي 1000 في المئة
ونسبة عشقي لك.. لا يمكن قياسها..
أيُّها الوطن الذي لا يعرف أسماء رعاياه..
لماذا تتجاهلني..
وتناديني سعاد..
إن هذا الاسم ليس اسماً موسيقياً يليق بي.
هذا جواز سفري..
وهذه تأشيرتي إلى شواطئ عينيك..
هذه وثائقي.. وكلها تثبت أنني من رعاياك..
فماذا تريد أيها الوطن الذي أضاع ذاكرته؟..
الحب الكبير موجود..
والولاء لكل سنتيمتر من خريطتك، موجود..
والرعد.. والبرق.. والمطر.. والجنون موجود..
العقل وحده اليوم غير موجود..
أعشقك بكل وقاري.. وهدوئي.. وتوازني وحكمتي..
وبصيرتي.. وجنوني.
يا وطني..
ورقة الطيران السويسري تستفزّني.
يعطونني في الطائرة فنجان قهوة فأتوحَّمُ
على حبة شوكولاته..
يعطونني حبة شوكولاته فأتوحَّمُ على شفتيك..
تنفرج شفتاك فأتوحَّمُ على تورته الفريز والفرامبواز
في مخبز القرية “مجيف”(1)، وأتذكر القرية بالنجفة
التي اشتريناها معاً.
وتذكرني النجفة بعينيك..
وتذكرني عيناك ببائعة الزهور..
وبائعة الزهور تذكرني برائحة رجولتك..
ورجولتك تذكرني بفروسيتك ومروءتك..
وفروسيتك تذكرني بالفرس الأبيض الجميل الذي
اشتريته لمحمد..
والفرس يذكرني بأيامي العائلية الرائعة التي قضيناها
في حضن قلبك وحضن البحر الكاريبي.
البحر الكاريبي الذي نسيت فيه نصف أيامي..
والنصف الثاني في حقيبة يدك..
وحقيبة يدك تذكرني يوم نسيتها في الفندق في موسكو
ونحن مسافرون للاطمئنان على الرئيس جمال
عبد الناصر في تسالخبوطو..
وجمال عبد الناصر يذكرني بذلك الزمن الجميل..
زمن التحديات الكبرى والانتصارات الكبرى.
وزمن التحديات يذكرني بهذا الليل الرمادي الذي
يغطينا رماده..
وهذا الليل يذكرني بالنوم بين أهدابك لينكسر الزمن
من حولي.. المضيفة السويسرية تسألني للمرة العاشرة
إذا كنت أريد حبة شوكولاته..
الرسالة السادسة
يا صديق البحر وصديقي..
هل هذه الأرض تتسع لمصلح جديد، يبشر بالعدل،
والخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن الشر.. ويبذر في
هذه المنطقة الملتهبة بنيران الكراهية بذور الحب؟..
هل هذه الأرض المتشقق جسدها عطشاً ويباساً،
والمدفونة تحت طبقة سميكة من الكلس والملح تقدر
أن تفتح مساماتها لهذا المطر الربيعي؟
هل يستطيع أهل الكهف في جحورهم وسراديبهم
الحجرية.. أن يستوعبوا التماع البرق؟..
هل تستطيع كل هذه البراري التي لا تنبت إلا الشوك
والعوسج.. أن تهيئ نفسها لاستقبال وردة؟
هل تستطيع المدن المحاصرة بالوجع أن تفتح نوافذها
لغناء عصفور؟
هل تستطيع هذه المدن الحجرية العواطف المصّفحة
بالإسمنت المسلح، الملقحة ضد جرثومة التغيير أن
تستوعب أمواج البحر واحتمالات اللون الأزرق؟
من ذا الذي بوسعه أن يغلق نوافذه
حتى لا يرى البحر؟..
من ذا الذي يرفض الاغتسال باللون الأزرق؟
إنني أعرف أنك لا تخاف البحر.. ولا تحسب حساب
مدّه وجزره وتحولاته.
غير أني أطمئنك أن البحر صديق رائع..
ولولاه.. لما كانت هناك سحب ولا كانت أمطار..
ولا كان هناك كريستوفر كولومبوس.. ولا أحمد بن
ماجد ولا طارق بن زياد..
كل هؤلاء المكتشفين والفاتحين العظام، أقاموا حواراً
مع البحر فكافأهم البحر بهدايا من الفيروز واللؤلؤ
الرمادي وأعطاهم مفاتيح أميركا والأندلس..
والرجل كان دائماً صديق البحر..
فالبطولات خرجت من أمواجه..
وسمك الدولفين لا ينسجم مع نفسه إلا إذا ضرب
البحر بعنف حتى يشعل في الماء ألف حريق..
عندي إحساس بأنني أدخل التاريخ..
أو أكتب التاريخ من جديد..
ما هو التاريخ؟ أكيد أنه ليس تاريخ الحثيين والآراميين
والآشوريين والفراعنة والإغريق والرومان..
وأكيد أنه ليس ما كتبه هيرودوس.. والطبري.. وابن
خلدون.. وابن بطوطة..
التاريخ هو غداً يوم من أيامي العظيمة..
هو يوم يدخل أولادي فيه معترك الحياة
هو غد مرسوم باللون الأزرق..
الرسالة السابعة
أيها الرجل الذي استعمرني..
من الذي اخترع قصة لطفك.. وعذوبتك؟
من هو هذا المؤرخ الذي أعطاك كل هذه الألقاب..؟
أريد أن أقابله خمس دقائق لأقول له إنه لم يكتشفك..
فهذا الرجل.. مثله مثل غيره من الرجال، يعرف
كيف يصرخ..
وكيف يعترض عليّ إذا ما جادلته..
إنه لا يسمع إلا صوته.. ولا يحترم إلا منطقه..
إنه يريدني عسكراً من خشب أؤدي له التحية عندما
يدخل وأرميه بالورد عندما يخرج..
سامحني إذا قلت لك إن عساكر الخشب لا ينفعونك..
وسامحني إذا قلت لك إن هذه المهنة لا تناسبني..
وسامحنـي إذا قلـت لك إن تصـرفاتك الأخيـرة تميـزت
بالتسـرع واضطراب الرؤية.
فلا تحكم على الأشياء من غير اقتناع لإرضاء
أصدقائك حتى لو كان هذا الصديق رأس البلد..
قد تكون لك أسباب أملت عليك هذا الموقف.. ولكنني
لا أريدك أن تسبح في مياه السياسـة الآسنـة.. بعـد أن
كنـت تسبــح فـي مياه الورد والمسك ومياه عينيّ.
إن الوقت معك.. ومجدك لا يستطيع أحد أن يشطبه..
أريدك أن تدخل أي مجلس كالملك..
وتنسحب في الوقت المناسب كما حدث يوم استقالتك..
إياك أن تفكر أو تتصور أنني أتخلّى عنك..
هذا كلام فارغ.. إن وظيفتي أن أحميك لا أن أشجعك
على الاستماع إلى أصدقاء المصلحة.
وظيفتي أن أكون الناطقة باسمك..
والمحافظة على كبريائك وأفكارك..
مرة أخرى أقول لك..
ستكون أحمق إذا ظننت أنني أتخلى عنك.
فأنا نذرت نفسي لأصل معك
إلى أبعد نجمة في السماء..
أن أطير معك إلى الشمس..
وإلى نوافذ السماء المفتوحة لتحقيق أحلامنا.
الرسالة الثامنة
يا عصفوري الذي طار من يدي..
هل تذكر مقهى Bird in Hand
هذا المقهى النائم بجوار بيتنا الذي طالما ذهبنا إليه
مع الأصدقاء..
هناك في زواياه تشتبك العتمة بالضوء الخفيف
وتشتبك الأيدي والأشواق..
وفي حديقته تتعانق الخضرة بالألوان..
لماذا أتذكر هذا المقهى بالذات..
وأنا في طريقي إلى الكويت؟
ربما لأنني لا أرى من نافذة الطائرة سوى جبال الغيوم..
فعصافيري وأنا طارت من يدك..
لتحط على كتف الوطن..
أحب شاي Maiden head معك وبسكويت
الدايجيستيف معك.. والمشي في الغابات معك..
وقطف التوت الأسود معك والأطفال يقفزون كالأرانب
بيننا.. والنوم على ركبتك بكل اطمئنان أثناء البكنيك
الجميلة في حديقتنا
يعجبني هذا الطريق الخرافي بين جنيف و”مجيف”..
ومروراً “بسالانش”.. وأم كلثوم بصوتها الذي يحكم
بيني وبينك بالعدل..
ذاكرتي أمطار من الألوان..
واللون الطاغي فيها هو اللون الورديّ..
والورديّ هو لون حياتنا.. ولون حنيني إليك.. ولون
الأفق.. ولون نصف ثيابي.. ولون حرائقي عندما أكون معك..
ولون أحلامي عندما لا تكون.. ولون كلماتي
عندما أكتب عنك..
ولون كل الأمكنة التي دخلناها فأخذت لون دمنا.. ولون
كل الوقت الذي لفرط ارتطامه بيننا، لم أعد أعرف هل
هو كويتي.. أم لبناني.. أم مصري.. أم سويسري..
أم فرنسي.. أم إيطالي.. أم إنجليزي.. أم كاريبي..
أم خليجي..
سعادتي لا جنسية لها.. وحبي لك لا أرض له..
فهو في الكويت خليجي.. وفي إنجلترا إنجليزي..
وفي سويسرا سويسري.. وفي فرنسا فرنسي..
وفي بلاد العرب عربي..
هل هناك زمن لا جنسية له؟
نعم..
إنه زمانك..
هل هناك رجل تتبعه الأزمنة حيثما ذهب وتركض وراءه
الأمكنة حيث تحرك؟..
نعم.. هذا الرجل هو أنت..
كل المدن أخذت اسمك..
وكل الأشجار صارت أوراقها كويتية وتنطق العربية..
وكل الخيول والغزلان والأرانب والسنجابات
في Bear place تحتفل معي والأولاد بعيد ميلادك
وننسى أعياد ميلادنا..
أخطر ما في حبك أنك كل يوم تشغل مساحة جديدة
من نفسي وفكري..
كل يوم تربح أرضاً جديدة..
وكل يوم تزداد مناطق نفوذك.. وتزداد ممتلكاتك..
إنني لا أشتكي.. وإنما أراقب امتداداتك الجغرافية
بقبول، ورضى، وترحاب..
أراقب دخولك وحركتك في داخل القلب.. فأنا أشعر
بالطمأنينة.. أن هناك من يقتسم معي هذه الحياة
بصورة عملية.. لا بشكل نظري كالآخرين..
لا أنت مضاف إلي.. أو عابر.. أو موسمي..
صرت أنت يدي التي أحركها.. وعيني التي أرى بها..
وأصابعي التي أكتب بها..
لا أنت في حياتي سائح.. أو مسافر ترانزيت
أو عصفور مهاجر..
النساء السائحات عرفتهن قبلي.. ونساء الترانزيت
قبلي.. والنساء الموسميات قبلي
أما أنا فامرأة كل المواسم وامرأتك..
أشعر أن جذورك في لحمي لا تقلع.. وأن عينيك (هما
ما تفضل بهما الله عليّ) فاتركني أسبح فيهما.
أنت الوحيد الذي غطى حياتي –بعد وفاة أبي– دون
منةٍ، ودون ادّعاء، ودون ميول استعراضية..
أنت الذي حميتني نفسياً، وفكرياً، وثقافياً وشعرياً،
وحضارياً، ووقفت إلى جانبي في الأزمات الصعبة التي
يفرمنها رجال القبيلة.
بعد هذه السنين أعترف أنك رجلي..
وأن الله كرمني وأعزني، ورضي عني حين وهبني إياك..
بعد هذه السنين أكتشف أن والديّ راضيان عني..
هذه المرة تختلف عن المرات السابقة..
هذه المرة.. الوجع أكبر.. وفراغك أكبر..
وأيامنا تدخل في القلب كنصل الخنجر..
لماذا أعطيتني كل هذه السعادة؟ لماذا عودتني كل هذه
العادات الجميلة؟
إنني في ورطة حقيقية..
ورطة ليست كالورطات الماضية.. أبداً.. أبداً.. أبداً.
ستغيب أسبوعاً عني أو أكثر قليلاً..
تتركني الأيام واحداً واحداً واحداً وتهرب إليك.
لم تبق أمامي سوى الشيماء وكتابي احتضنهما
صباحاً ومساءً علّني أخفف شوقي إليك..
إنـني أكـاد أنفجـر.. فهـل مـن المعقـول أن أتحول خلال
أسبوع واحد من امرأة متحضـرة إلـى امــرأة بدوية؟
هل من المعقول أن ينقطع الباراشوت بي، فأسقط في
سماء عينيك المكوكبتين؟
الرسالة التاسعة
عبد الله..
إذا كنت لا أعرف أن أخرج وحدي..
ولا أعرف أن أشرب القهوة وحدي..
فكيف أدخل المستشفى وحدي؟..
لقد عودتّني أن تكون معي في كل الأماكن في العالم..
تختار طعامي.. تطعمني..
وتساعدني على النهوض والجلوس..
وتأخذ الإبرة في ذراعك حتى لا تدخل ذراعي..
وتدخل معي في غرفة التصوير..
فتطلع الصورة صورتك.. والطفل طفلك..
ويخططون قلبي.. فإذا به تخطيط قلبك..
لقد عودتّني أن نذهب معاً إلى الأطباء..
ونتعرض لذات الأسئلة والأجوبة.. وذات الفحوص..
ولكن هذه المرة رفعت يديك عني..
فالكوريدورات التي كنت أمشي فيها معك تبدو صغيرة
مثل حبة الفاصوليا..
وقسم الأشعة صار يفتقد الأشعة..
والأبر التي يغرزونها في جسدي صارت تؤلمني أكثر..
فقط تحليل دمي يُظهر أنني في حالة عشق كبير..
ليس في دمي إلاّك..
أكثر الممرضات هنا فليبينيات..
يحّدقن بي بعيونهن الصغيرة.. وإنجليزيتهن تعبانة..
ولقد احتملتهن إكراماً لك..
صوتك القادم إليّ كل ساعة، هو مصدر العافية،
وينبوع الأمل، ونافورة الماء، التي تغسل جدران
غرفتي بالندى..
من دون صوتك لا يمكن للأطباء أن يفعلوا
شيئاً لمرضاهم..
ولا يمكن للجراح أن تلتئم..
ولا يمكن للفرح أن يضيء في عيون المرضى..
صوتك هو الكناري الأخضر الذي يقف على شباكي
كل يوم..
هو القمر الذي يغسل بضوئه مخدتي كل ليلة.
صوتك هو الحجاب الذي يحميني.. والسلام الذي
يغمرني بالطمأنينة.
صوتك هو صانع المعجزات.. والوليّ الذي يغمرني
ببركاته.. وكراماته..
صوتك هو شاطئ السلامة..
فتكلم كل لحظة.. حتى تصبح الحياة ممكنة.
أتذكرك.. أتذكر صوتك عندما كان صديقي..
أتذكر كيف أكلت شفتاك يديّ..
أتذكر كيف احتضنتني كما لم تحتضن أي امرأة قبلي
حتى تحولت إلى ذرات..
أتذكر الضباعية التي حفرت في لحمي ألف منجم ذهب.
أتذكر طعم النار والجنون.. والسمك المشوي
وسمفونيات حنانك التي لم تتوقف ليلاً نهاراً..
أتذكر سؤالك لي “سعودة أين ذهبت؟” حين أكون
معك.. ولك.. وفيك.. هل يمكن أن يشرد الفكر
خارج جغرافيتك..
أنت الجغرافيا كلها..
أنت المسافة..
أنت الوقت..
أنت الزمن الذي مضى، والزمن الذي يأتي..
“بتفكري بمين”؟
هذا سؤال لا يطرح عليّ.. وإلا فأنت مجنون..
مجنون.. مجنون..
الرسالة العاشرة
طوايفي..
الدنيا ثلج.. وبرد الصحراء مسمار في العظم وأنا على
مقعدي أنفخ.. وأنفخ معتمدة على التدفئة الذاتية ولكن
ثبت لي أن كل أنواع التدفئة دونك “فالصو”..
فأنت وحدك الذي تشعل النار..
وتضيء المدن والشوارع وتحرق أصابعي وتحمص
القلب كحبة كستناء..
ولكن أين أنت؟
يا رائع:
أنت وحدك تشعل حياتي كمصباح قوته عشرة آلاف فولت.
يوم أمس كنت رائعاً.. أعرف ذلك ولكنك في بعض
الحالات تخرج فيها من جلدك لتصبح موسيقى سائلة..
وفي بعض الحالات لا يبقى لك حجم..
ولا وزن.. ولا مساحة..
تصير شيئاً غامضاً، سرياً، يشبه غموض البحر
ورائحة الليلكة..
عندما تكون بهذه الحالة.. أتركك تتكلم.. وتتكلم..
حتى لا أزعج دودة القز وهي تصنع أسلاك الحرير
فوق مشاعري..
في هذه الحالة، أشكر الله كثيراً، لأنه حقق لي أمنية
من أماني طفولتي، وهي أن أعرف كيف تكون
رائحة الليلكة..
رائحة الليلكة!! لا أدري كيف أصفها لك..
لا أدري كيف أشرحها..
لا أدري كيف أصوّرها بدقة..
أنت لا تعرف رائحة رجولتك..
لأن الوردة لا تشم نفسها.
يا مدهش..
إنني لم أعد قادرة على تصديق معجزاتك..
كيف تدخل معي إلى سوق الذهب فيكتشف الناس
بعد قليل أنك أجمل إسوارة تتحلى بها امرأة.
كيف.. كيف.. كيف.. ردّ على أسئلتي
فقد بهرتني معجزاتك!!..
يا بعيد..
وحدي في الخيمة كزهير بن أبي سلمى..
أضرب على ربابة قلبي فلا أحد يسمعني..
وحدك أنت الذي تتعاطف معي..
وحدك أنت الذي تقرؤني..
ووحدي أنا التي أقرؤك بكل لغات العالم..
وحدي أنا التي لا تخلف ميعاداً..
ولا تخاف برداً ولا مطراً.. ولا تحسب المسافات بين
لوس أنجلوس وأمّ القيوين.
وحدي أنا التي استضافت في حناياها ذريتك لمدة
تسعة شهور وأعطتهم من الحنان واللهفة ما لا تعطيه
امرأة على وجه الأرض..
وحدي التي تمطر.. وحدي التي تفيض..
وحدي التي لا حدود لجنونها ولا حدود لجنونك بها..
يا أيها العظيم:
ساعات تمر ولم أغادر غرفتي..
ما دمت أنت في داخلي فـإن الخارج لا يهمني..
الخارج سخيف لا أتحمله..
ساعة أقضي فيها واجباتي الاجتماعية..
الخارج يعني أن يأخذك الآخرون مني، ولو لخمس
دقائق، والداخل يعني أن أستردك..
الخارج يعني أن أكلمك بصوت عالٍ في المحلات
العامة.. والداخل يعني أن أهمس في أذنك وأنت تلعب
مع أطفالنا في حديقة البيت.. أو أن أقشر لك الفستق
وأنا ملتصقة بأضلاعك.
ما أسخفني حين أقنعك بأهمية الداخل..
وأنت الذي علمتني كيف أتكوم كالطفل في راحة كفّك..
يا أعظم بيتوتيٍّ في العالم..
الرسالة الحادية عشرة
يا الذي لا قبله قبل.. ولا بعده بعد..
كل عام، وأنت ربيع، ومنعش ومشتعل بالأزاهير..
وكل عام وأنت تفرش فوقنا مظلة الطمأنينة
والسلام، والمحبة..
آه كم تشبهك هذه الجبال التي تنبت الثلج والعشب..
والطفولة..
آه كم تشبهنا..
دائماً كنت أبحث عن مساحة من الأرض تشبهك حتى
عثرنا على هذه القرية النظيفة.
عندما جئنا إليها للمرة الأولى لإدخال ولدنا مبارك
الأول مدرسة صيفية ليتعلم اللغة الفرنسية وهو طفل لم
يتجاوز سنواته الست..
إنها “مجيف” وحدها تختصرك..
وتستطيع أن تدعي أنها توأمك..
سماؤها صافية ونظيفة مثلك..
مطاعمها أليفة مثلك..
جبالها شديدة الكبرياء مثلك..
بيوتها مفتوحة الذراعين مثلك..
ينابيعها، وشلالاتها، ومساقط مياهها كريمة مثلك..
أزهارها، وغمامها.. وأمطارها..
مؤمنة بالسلام مثلك.
فشكراً لأنك أعطيتنا السلام مرتين..
مرة.. لأننا معك نحتفل بعيد ميلاد حبنا..
ومرة.. لأننا معك في القلب
لقد أعطيتنا فرصة نادرة لنجلس تحت أهداب عينيك..
وننام تحت أشجار حنانك..
ونتخلص من عالم البشاعة والتلوث..
إن مجرد التفكير بأنك لنا.. ومعنا في كل تفاصيل
حياتنا، يجعل العمر أقل قسوة، ويعطينا القدرة على
اختراع الورد، والسنابل واللون الأخضر..
فظل دائماً كما أنت خيمتنا، وسيفنا،
ومنارتنا البحرية..
وغطنا دائماً بحنانك قبل أن ننام.. حتى نراك في
أحلامنا الجميلة.. ونستحم في ينابيع حبك.
الرسالة الثانية عشرة
عبد الله..
عندي موعد مع الطبيب في العاشرة والنصف.
لا أدري ما سيقول لي..
ولا أدري ما سأقول له؟
هل أقول له إنني أحبّك.. فيشفق عليّ ويتركني
أذهب..
أم أنه سيصر على فتح بطني لإخراج جنينك..
هل أقول له إنني اشتقت لك، فيسمح لي أن أعود إلى
أحضانك وتنتهي مشاكلي..
صدقني ليس عندي مشكلة سوى أنت..
كل المشاكل الأخرى قابلة للحل..
وكل العالم قابل للذوبان..
إنني لست خائفة من فتح بطني
ولكنني خائفة من خوفك عليّ..
موعدي مع الطبيب في العاشرة والنصف
أكيد سوف تظهر صورتك في عينيّ..
وأكيد سوف يكتشف الطبيب كم أحبك.
كان ذهابي إلى الطبيب امتحاناً صعباً.
أخذت 100% في حبك
وأخذت صفراً في التحمل والصبر..
لم أعد قادرة على تصور عالم لا تكون فيه.
ولا عدت قادرة على تصوّر زمنٍ لا يمر
من خلال أصابعك،
ولا عدت أطيق المشي في غابة لا تظللني بها عيناك..
ما عدت نافعة لأي مهمة.. سوى مهمة التغني باسمك.
الساعة الآن السادسة صباحاً.
كل الدنيا نائمة.. إلا أنا..
وسنجابات الحديقة..
السنجابات لديها رفيقات تلعب معها..
وأنا مع من ألعب؟..
هذه كلماتي لك
وأنت بعيد حتى الوجع..
يا ليت الطائرة التي جاءت بي تأخذني إليك..
أخذت صفراً في المقاومة والتحمل..
وأنا تعوّدت أن أتفوق دائماً..
ولا أكون متفوقة إلا حين أستلقي تحت مظلة حنانك..
الرسالة الثالثة عشرة
عبد الله.. يا عبد الله
باسم البر والبحر وكل الأزمنة والأمكنة وما كان.. وما
سوف يأتي.
نحن سكان 40 شارع العروبة نرحب بك أنت الذي
لولاك لما كان هناك قصـر. وباسم الرخام، والسجاد
والكاشاني والتبريزي، وأواني (السيفر الأوبالين)
ومقاعد (الأبوسون) وتماثيل الرخام التي لا تساوي
بغيابك قرشاً واحداً..
نرحّب بك باسم السلالم التي لا تطلع في غيابك
ولا تنزل..
وباسم أسود الحديقة التي شاخت وسقطت أنيابها
ومخالبها في غيابك وصارت قططاً..
وباسم صديقتك وزوجتك التي أضاعت صبرها.
وباسم البواب الذي لم يعد بواباً.
نرحب بك باسم الأسانسور الذي تخشبت مفاصله..
وباسم الحنفيات التي تختنق من شدة العطش..
وباسم مواسير المياه التي نشفت دموعها..
وباسم التيار الكهربائي الذي يرتعش من شدة الشوق..
وباسم سيارة المرسيدس التي تلطم خدها في الكاراج
من شدة الضجر.
وباسم الحديقة التي صارت أشجارها من الحجر..
وثمارها من الحجر..
باسم كل الأشباح التي تتجول في المنزل
حين يهبط الظلام..
باسم جميع من غطّاهم الغبار.. والعنكبوت..
والنسيان.. ولم يعودوا يعرفون أسماءهم
أو وجوههم أو أصواتهم..
وباسم جميع المتضررين من غيابك..
وباسم جميع المفقودين في بحار الغربة والحزن..
وباسم جميع الأطفال الذين يفتقدون آباءهم..
وباسم جميع السياسيين الذين يفتقدون حكمتك.
نسألك أن تبقى رئيساً لجمهورية بيتنا مدى الحياة..
ونحن نتعهد لك أن نبقى أولاداً مطيعين..
وأن نُذاكر في عينيك جيداً.
وأن ننام على ركبتك منذ الساعة الثامنة مساء..
وأن نعلن أنك أعظم أب..
وأن..
وأن..
وأن (نحُّبك) دون توقف..
الرسالة الرابعة عشرة
يا طوائفي كلها.. قبل أن تكون دولة ملوك الطوائف.
يا إمبراطورية الحنان قبل أن تكون كل الإمبراطوريات.
يا شريعة الحب قبل أن تكون الأمم المتحدة..
يا أيها الرجل القوي..
يا الذي يجلس على أحرفي ويخربش على أوراقي..
يا أيها الصقر الذي يستحم كل صباح بقطرات الندى..
يا أيها اللاعب بأفكاري ألا تلعب معي
على شراشف وقتي..
لا أحد يرضى أن يلعب معي هنا..
ولا أنا أعرف أن ألعب مع أحد.
أنت أمي وأبي وعشيرتي..
أيها العابق بالورد ودهن العود.
كانت الكتب والدراسة تأخذ كثيراً من وقتي..
ومن ذاكرتي..
الآن انتهت الكتب.. وبدأت لندن تضيق عليّ..
وبدأت بناياتها تقترب من بعضها البعض أكثر وأكثر..
حتى سماء لندن التصقت بإسفلت الشوارع.
ولندن الكبرى التي يكتبون عنها صارت بحجم
حبة الفول..
الزمن بدأ يضيق عليّ..
ولولا الآفاق التي يفتحها لي صوتك ليلاً
ونهاراً لاختنقت..
صوتك قضية كبيرة لا يعرفها إلا المحاصرون
بالخوف والقلق والوحدة..
أين يذهب الإنسان المحبوس في زجاجة مقفلة؟
كانت الكويت تختبئ تحت شعري في ساعات حزني..
الآن لم يبق إلا صوتك..
لذلك طلبت منك أن تطيل وقت المحادثة.. أكثر..
لأنني كنت أعرف أن صوتك سيكون ملجئي..
أنت قضية كبيرة..
أقولها حتى تعرف جيداً من أنت..
وحتى لا تعبث يوماً بوثائق حبنا العظيم..
إذا كنت بدوت في بعض الأحيان، فظة أو جارحة
أو عدوانية.. فلا تقطع جسورك معي لأنني سأسقط..
إنني طفلتك بجميع علاتـي وتشويهاتي الطفولية
والوراثية.. ولا يمكنك أن تتبرأ مني..
عاقبني.. ولكن لا تقف وتقول إن هذه ليست ابنتي..
أنا من لحمك ومن دمك.. وإذا كنت لا تصدق فاذهب
إلى أقرب مستوصف للتحاليل وسوف تكتشف أنني
ابنتك وحبيبتك وزوجتك.
إنني أسألك بالخبز والملح..
أسألك باسم جميع الأماكن التي عرفتنا..
وباسم أجراس القرى البعيدة.. والجبال المكسوة
بالثلج.. وباسم أطفالك الذين يلعبون حولي..
أرجوك ألا تخرج من دمي حتى لا أصاب بفقر الدم..
يا أجمل أولادي..
الرسالة الخامسة عشرة
يا سيد هذا العالم.. وسيدي..
في مطار جنيف.. كانت بدلتك الإنجليزية المنقطة
بالأبيض والأسود، التي أبدعها الخياط الفرنسي
“cums” تربك حركة الطيران..
وكانت العينان المغسولتان بالضوء تربكان وتدوخان
رادارات برج المراقبة.
كابتن طائرة الكويتية – بعد أن رأى الملك – لا يريد أن
يقلع.. وأنا العاشقة للملك لا أريد أن أقلع..
وطائرة البوينغ 707 هي الأخرى وقعت في عشق
سيدي.. وتُفضل أن تذهب مع العينين التاريخيتين على
أن ترجع إلى وطن الأحزان..
وهكذا تشكل في الطائرة حزبان:
أنا والكابتن.. من حزب البدلة المنقطة بالأسود
والأبيض ونريد البقاء في وطن الفرح..
وبقية المسافرين تريد السفر إلى المجهول..
يتضايق المسافرون مني.. فيصرخون غاضبين
ولو.. أفي سبيل هذا الرجل المبارك تمنعنا من
الرجوع إلى الوطن..
أفي سبيل البدلة المنقطة بالأبيض والأسود يحتجز
الكابتن الطائرة؟..
هل (هو) أهم من شارع فهد السالم والسالمية؟
هل (هو) أهم من البحر.. والشاليه.. وفيلكا؟
هل (هو) أهم من صوت الربابة..
والعود وصوت عبد الله فضالة؟
بكل هدوء ورباطة جأش أقول لهم: هو عندي أهم لأنني
أحبه.. إنه زوجي..
وصديقي.. ومعلمي.. وسندي.. ووطني..
وأدرك أن النساء قد غرن مني..
وأدرك أنكِ لا يمكن أن تقولي إنك تحبين رجلاً
أمام امرأة أخرى..
يقول لي الكابتن.. لا تزعلي.. فهن غير مهتمات بالوطن
ولا بأحزان الوطن.. ولا بوجع الوطن..
إن وطنهن الحقيقي هو شارع الفوبور سانت أونوريه..
وشارع أكسفورد ومحلات هارودز..
إنهن لسن غاضبات منك..
ولكنهن غاضبات من زوجك الذي كان في وداعك..
ومن يديه اللتين كانتا كالشلال فوق كتفيك
وهو يعانقك..
هذه هي جريمتك الحقيقية..
فلو أنك صافحته (على الناشف) ولم تعانقيه
حتى صارت أضلاعك داخل أضلاعه لما ثارت
هذه العاصفة ضدك..
ولا يهمك يا أم مبارك..
فالذي كان في وداعك يساوي مملكة..
الكابتن لا يفهم في الشعر ويفهم في الحب..
ويفهم ماذا يعني رجل لامرأة مثلي..
لذلك صار صديقي..
ولأنـه صـار صديقي فقد دار عشر دورات حول بحيرة
جنيف.. وعشر دورات على شقتنا وألقى على شرفتها
وردة، واخترق الحدود عشر مرات بين سويسرا
وفرنسا.. وألقى التحية على مقهى الموفمبيك
(movenpick) الذي نتناول فيه قهوتنا الصباحية..
وهل أنت مبسوطة؟ يسألني الكابتن..
جداً.. جداً.. جداً.
والآن إلى أي مكان تريدين أن نذهب؟..
إلى أي مكان سار فيه معي إلى (Bon Genie’)
أو إلى (Grand Passage) أو إلى محل بيع ملابس
الأطفال.. أو إلى سيارتي الخضراء التي لم أتعلم
حتى الآن على أي نقطة من الأوتوستراد الفرنسية
أدفع 5 فرنكات.. وعلى أي نقطة أدفع 12 فرنكاً
ونصف الفرنك..
إنني غير خجولة بضياعي. فلو أنني كنت أعرف أين
يميني وأين يساري
وأين فوقي وأين تحتي..
وأين حدود فمي وأين حدود فمك..
لما كنت شيئاً يذكر..
أعود إلى مقعدي في الطائرة وأطلب
الصحف والمجلات..
يظهر لي نابليون بكل نياشينه وأوسمته وبطولاته
في الصحف الفرنسية..
يذكرني ببطولاتك.. بفروسيتك..
منذ سنوات ذهبنا إلى الإنفاليد في باريس.
وتحضر المكتبة الفرنسية، بكل مجلداتها..
ومخطوطاتها.. وخرائطها.. ووثائقها السرية..
تمر في ذاكرتي كطائر النورس.. أستعرض تاريخ
حياتي كله من أول سطر حتى آخر سطر..
فلا أجد مرفأ يهدي العقيق، والبخور، واللازورد إلا
مرفأ “أبو الخير”.. ولم ألتقط حناناً إلا من بحره..
حين أوصلني أبي إلى سُلم الطائرة.. وقبلني قبلة
الوداع، عرفت أن العطلة المدرسية قد انتهت..
وموسم اللوتس والتوت البري قد انتهى..
والموسم الثقافي الأوروبي قد انتهى..
والمكتبات أقفلـت أبوابهـا..
والغزلان طفشت خارج البوابة الحديدية والتجأت
إلى الغابة المجاورة لبيتنا في (Bear place).
أنت مدرستي.. وأنا لا أريد أن أتعلم أكثر مما تعلمت
ولا أريد أن أنال من الشهادات أكثر مما نلت.
لقد أعطيتني phd الحياة بامتياز..
وعلمتني النوم تحت أشجار حنانك.
صوتك علمني مبادئ علم الموسيقى..
وفروسيتك علمتني كيف أحب الخيول العربية..
ويدك علمتني كيف تنصهر سبائك الذهب بنار اللهفة..
يسحبون سلم الطائرة وأتمنى لو أقفز الدرجات
وأمسك بثوب أبي..
وأتوسل إليه أن يأتي سريعاً لأنني لا أعرف أن أكون
مع الأولاد وحدي..
ولا أعرف أن أطلب أي رقم من الأرقام بالهاتف وحدي..
ولا أعرف أن أقود السيارة وحدي..
أفكاري تشتعل وبخارها يتصاعد دافئاً.. ومعطراً..
تـُرى لو عرف الناس كم أحبك لاقترحت الاكاديمية
السويدية إعطائي جائزة نوبل للوفاء.
هل الذين أخذوا جائزة نوبل أحسن مني..؟
وهل الذين تفوقوا في علم الكيمياء.. ومصادر الطاقة
والاقتصاد يعرفون عن مصادر الطاقة الإنسانية أكثر مني ومنك؟..
وهل يعرف الناس امرأة سماها أبوها (أم الخير)
سوف تقود حركة تصحيحية لإعادة اعتبار
المرأة وإخراجها من حالة التشيؤ، وإطلاقها
إلى ملاعب الضوء..
تحيا أم الخير..
ويحيا أبو الخير..
الرسالة السادسة عشرة
أمي.. أبي.. طوايفي..
الشوق جيد.. وأنت أعظم رجل في الدنيا
الشـوق يـزحف باتجاهك..
أنت القارة الخرافيـة التي يحلم بها كل الفاتحين،
ولم يكتشفها أحد غيري..
لا تظن أني مشتاقة إليك لأنني بعيدة عنك فأنا أشتاق
لك قبل السفر، وبعد السفر.. وأثناء السفر.
الجغرافيا لا تغير شيئاً من طبيعة عشقي.
إني أحبك في ذروة صحوي.. وفي ذروة منطقي..
وفي ذروة بصري وبصيرتي.
عشقي لك ليس أعمى على الإطلاق..
إنه حب مبصر جداً.. ولماح جداً.. وحضاري جداً.
ولان حبي لك ذو رؤية إنسانية وجمالية وثقافية
وحضارية، فهو صادق في الزمان والمكان.
لو كنت امرأة المكياج، والاستعراض، والأحمر، والأزرق،
والفكر المنطفئ.. لما أحببتني ولانتهى الموضوع.
ولكن الموضوع معك يكبر، ويتسع، ويزداد عمقاً وتجذراً
وأنت فخور بإنجازاتي..
وفي حين تدخل نساء كثيرات في العتمة أبقى أنا معك
في دائرة الضوء لأنني أعرف ما تريد..
ربما لا تصدق أنني حين تسافر أو أسافر ونفترق لأيام
أو لأسبوع فإنني عندما أعود إليك أو تعود إليّ أحس
كأنني سأقابلك للمرة الأولى..
مشاعر طازجة، وجديدة، ومتحمسة، ومشتعلة
وربما مراهقة..
طبعاً.. زمن المراهقة انتهى.. ولكنني لا أعرف ماذا
أسمي هذا الشعور المجنون بالحاجة إليك..
ماذا أسمي هذا النزوع إلى التوحد بك..
ماذا أسمي هذا الشعور بالغربة والاستلاب
حين لا أجلس إلى يمينك في أي مكان..
بقيت نصف ساعة لأحط على كتفك..
الطائرة تخترق الحدود..
بقيت نصف ساعة حتى أعيش..
الرسالة السابعة عشرة
يا حبيب الصيف والشتاء..
ويا حبيب الخريف والربيع..
لم أسمع بين رجال العالم عن رجل أقدر منك
على استخراج الغضب من تحت أظافره..
ولم أسمع في حياتي عن رجل أقدر منك على تحويل
لحظات الفرح إلى لحظات نكد..
ولم أسمع.. من بين ما سمعت عن واحد يغزل كدودة
القز ألوف الأمتار من خيوط الحرير..
ثم يقضمها بأسنانه..
ولم أسمع عن رجل يزرع مليون شجرة ورد..
ثم يشعل النار فيها..
ثم لم أسمع عن رجل يأخذ حبيبته إلى أعلى قمة
في جبال الألب..
ثم يدفعها فجأة إلى الهاوية.
صدقني لم أعد أعرف كيف أتعامل
مع مناخاتك الاستوائية..
ففي يوم أحترق بلهيبك..
وفي يوم أتجمد تحت صقيعك..
وفي يوم أطير معك إلى سابع سماء..
وفي يوم تكسر أجنحتي..
أتناثر على الأرض مليون قطعة..
لماذا يطيب لك أن تجهض أجمل لحظات عمري..
وتخرب أروع إجازة صيف جادت بها المقادير..
لماذا تتلذذ في إيذائي؟..
من الذي علمك هذه الطريقة الرهيبة في زرع الدبابيس
في أجساد من يحبك.. وذبح من ينام على ركبتك
كطفل يحلم بعروسة من السكر في ليلة الميلاد.
لماذا تدلق سطلاً من الماء فوق حرائقي..
وتخلق معركة وهمية من لا معركة؟
لماذا تصنع من الحبة قبة..
ومن التفاهات قضية تاريخية؟
لماذا ترمي قشور الموز في طريقي..
أنا التي لم أرمك إلا بورق الورود؟
في أي مدرسة تعلمت الحب؟
فأنا عاجزة عن تفسير انقلاباتك وتحولاتك..
أرجو ألا تلعب دور “سي السيد” في مسلسل
نجيب محفوظ.. هذا نوع من الرجال يخيفني..
ولعلك لاحظت كيف كنت أدير وجهي عن الشاشة
وأنت تتابع ذلك المسلسل المشؤوم..
هذا دور هابط لا يليق بك أبداً.
فلا ترفع في وجهي أي سلاح..
فلن تنتصر علي إلا بسلاح الحب..
ثم إنك لست بحاجة إلى انتصارات..
فأنت نصري الكبير..
وعشقي الكبير..
وإذا لم أستطع أن أقنعك حتى الآن كم أحبك..
فإنني أعتذر عن قصوري..
لقد عرفتك دائماً كبيراً وعالياً.. وذا عنفوان..
فابقَ في قمتك العالية.. ولا تسحب وسائد حنانك مني..
الرسالة الثامنة عشرة
عبد الله.. يا أحلى الأسماء
أنا التي تدرس المشاكل الاقتصادية
لا أجد حلاً لمشكلتي معك..
وأنا التي تدرس وضع المرأة العاملة وتستكشف
ظروفها.. فلماذا لا أستطيع دراسة حالتك؟
يا أيها الذي لا يعلم ما بي.. ويا أيها الرجل الذي
لا يعرف شيئاً عن تركيب دمي.
كل دراساتي، إذا لم تعالج مشكلة الشوق الذي يذبحني،
هي دراسات نظرية وطوباوية..
كل دراسات تتحدث عن النفط ولا تتحدث عن دمي
ولحمي وحرائقي لا أهمية لها..
أنا نفطك وذريتك ونارك وحرائقك..
وأنت زلزالي الذي أعانقه وأنام..
كل دراسةٍ لا تقول لك إنني أحبك دراسة ساقطة..
كل ترمومتر لا يعطيك درجة حرارتي يجب أن تكسره..
كل شهادة أحصل عليها لا تكون عن موضوع عشقي لك،
هي شهادة مزوّرة..
وأخيراً كل جامعة أدخل إليها دون أن تكون باسمك هي
جامعة متخلفة.. إنني معجبة بعقلك الكبير ولو كنت في
ساعات طيشي وتمردي
وتحدّياتي، أتمنى أن يصير عقلك أصغر من عقل
شمشم حتى أستطيع أن أتفاهم معك.
وربما حبك وعلاقتك الأبوية الحانية بشمشم سببها أن
حبها وحبي لك يشتغلان على نفس الموجة.
فأرجوك أن تستفيد من علاقتك مع شمشم وتتخلّى عن
مواقع القيادة.. لتلعب معنا على أرض الطفولة.
وسوف نتقاسم معك كل الشوكولاته التي في جيوبنا..
وكل الألعاب التي في خزائننا.. وكلّ المراكب الورقية
التي نسافر عليها..
سنكون سعداء جداً إذا لعبت معنا..
وإذا لم تقبل دعوتنا.. فستكون أنت الخاسر.
لم تعد اللغة صالحة للاقتراب منك..
لقد كانت اللغة سبب انتصاري فصارت سبب هزيمتي..
كل معاركي الكلامية معك انتهت بهزيمتي..
كل جنودي تركوني وانضموا إلى معسكرك..
كل خيولي تخلّت عني وتبعتك..
حتى أولادي شكلوا جيشاً للمقاومة وهكذا أصبحت ملكة
مخلوعة عن العرش..
وتخلى عني وزرائي وقادة جيشي..
والجماهير خرجت لتصفق لك عندما ظهرت
على الشرفة..
وجاءت لتبايعك وتضع على رأسك التاج.
ولأنني مقتنعة بأن الجماهير على حق فلقد مشيت
وراءها.. وبايعتك أيضاً حبيباً مدى الحياة..
كل ما أرجو أن تظل ملكاً ديمقراطياً، عادلاً، وأن تسأل
في الليل عنا كما في النهار.. نحن شعبك الذي يضعك
تحت أهدابه قبل أن ينام..
آه كم نحن سعداء بأن تكون مليكنا..
وأن تكون حبيبنا..
فكلُّ ما نطلبه منك..
وردة.. ورغيف حب..
الرسالة التاسعة عشرة
حبيبتي شمشومة
إذا كانت قطعة من الشوكولاته تكفي لاستعادة
ابتسامتك، واسترداد الفرح الهارب من عينيك
الجميلتين.. فإنني مستعدة أن أضع تحت تصرفك
جميع ما تنتجه مصانع الشوكولاته السويسرية.
أعرف أنك تشبهينني كثيراً..
وأعرف أنك النسخة الثانية مني، بتركيب وجهي
وتركيب طباعي.
كما أعرف أن طقسك متقلب.. ورياحك غير مستقرة
وأمطارك استوائية..
وأعرف أن الرفض جزء من تركيبة دمك.
كل هذا أعرفه، يا شمشومة.. ولكنني أحبك كما أنت
وأفتخر بأنك أروع إنجازاتي.
ولكن لماذا يختار والدك هذه الفترة الصعبة من حياتي
ليحاسبني عن هفوات لا أتذكر أنني ارتكبتها؟
لماذا يعلن الحرب علي في زمن أحوج
ما أكون فيه إلى السلام؟؟
لماذا يسحب مظلة حنانه حين تتجمع جميع صواعق
الدنيا وأحزانها فوق رأسي؟
والغريب يا شمشومة أن والدك العظيم يعرف أنني
أواجه امتحان دخول الحياة العملية، وهو الذي طار
من قارة إلى قارة ليكون إلى جانبي.. وأعطاني من لمسات
حنانه ما جعلني أتفوق.
إن حياتي يا شيماء من صنع والدك العظيم..
ولولاه لبقيت كالأخريات أدور في الفراغ والتفاهات.
هذا هو التاريخ يا شيماء.. تاريخ الوالد الذي لم يخلق
أروع منه ولا أطهر منه.
إنني أتذكر كيف يتسلل إلى مكتبي قبل ضوء الفجر،
ليشاركني فنجان القهوة وليشد من عزمي.
أتذكر كيف كان يطعمني المعارف بيده وكيف مشى
معي الخطوات الأولى في درب العلم الطويل وكيف سهر
معي.. أتذكر وهو يرافقني إلى امتحانات الثانوية العامة
وأنا أشعر بحرارة آيات القرآن الكريم التي كان يتلوها،
تلفح وجهي وتجعلني قريبةً من السماء.
هذه بعض مواقف والدك التاريخية أرجو أن أتمكن من
كتابتها بالتفصيل ذات يوم.
وعندما نلت شهادة الدكتوراه رأيت الغمام الرمادي
يتجمع في عيني والدك.. ورأيت الجليد يتساقط على
الكاثدرائية في “جامعة ساري” فيتحول إلى زمن من
غير فصول..
هذا الرائع هو شمسي.. وقمري..
وقارورة العطر في حياتي.
كيف بلحظة انقلبت بحار الحنان إلى
بحار من القسوة.. كيف؟
الرسالة العشرون
يا حب الحب..
الطائرة تطير باتجاه ساعديك.. باتجاه أحضانك
باتجاه عينيك اللتين أصبحتا آخر وطن ألجأ إليه.
لم تعد عندي أوطان حقيقية ألجأ إليها سواك..
لم يعد عندي نشيد قومي أُغنّيه غير نشيدك..
لم يعد عندي مطامع إقليمية سوى البكاء على كتفيك..
لم يعد عندي عمل حقيقي سوى أن أحبك.
عملي هو أنت.. وحياتي هي أنت.
وأنا اليوم مسافرة إلى أهم أعمالي وهو الدخول في
صفقة مع عينيك، بعد أن كنت عاطلة عن العمل لأيام..
لا تهمّني شروط الصفقة.. ولا يهمني حساب الربح
والخسارة.. خذ مني ما تشاء واترك لي يديك فهما
كنـزي، وهما ضماني.
لم أكن أتصور أن أُحبُّك هذا الحب البربري..
لم أتصور أن أصل ذات يوم إلى حالة تُشرق الشمس
فيها من أجلك وتغيب من أجلك..
وتدور الكرة الأرضية من أجلك.. وتغيب من أجلك..
ويصير دمي حديقة ورد من أجلك.
سألتني المضيفة: كم عمري؟
قلت: عمري الوقت الضروري لوصولي إلى ذراع حبيبي..
قالت: ست ساعات..
قلت: إنني أفقد توازني.. حالتي غير طبيعية.
كيف تريد لإنسانة مثلي تحبك حتى الذبح
أن تكون طبيعية؟
الطائرة تطير باتجاه ذراعيك..
قلبي يضرب كعصفور وأنت بانتظاري.
أصرخ: “أحبك”.. فيعلو صوتي على صوت
محركات الطائرة..
آه كم أنا مشتاقة إليك.
الطائرة دخلت الجو الإيطالي.. ورائحة الفيتوتشيني
تدخل في أنفي، وأيامنا في فينيسيا، ومشاويرنا على
رمل كابري وحمام سان ماركو المتناثر تحت قدميك
يشاغل أطفالنا ويسعدهم، وأنت سعيد بهم.
أحبك أيها الرجل الذي لا يتكرر..
أحبك ونحن في طريقنا إلى فيينا.. وفي الطريق إلى
سالزبورغ وفي الطريق إلى كومو والعودة إلى منـزلنا في مجيف.
كومو التي لا يشابهها شيء ولا يعادلها شيء.
أحبك يا رجل كل البحار وكل الجبال وكل الأمكنة.
أحبك يا الذي ليس قبله قبل وليس بَعْدَه بَعْد.
أحبك ولا أستأذنك ولا أستشيرك..
ولا أطلب من أي سلطة تأشيرة دخول إليك.
فأنت البلاد التي ولدت فيها وأريد أن أموت على ترابها..
فهل تقبلني لاجئةً سياسيةً إلى عينيك.
الرسالة الحادية والعشرون
سيدي:
ها أنذا في أحلى وطن.. في الكويت.. ومياه الخليج
تشتعل في ذاكرتي بحراً من البرتقال والذهب.
وأنت تخرج من أعماق البحر كدانة لم يعرف أنقى منها
جميع غواصي اللؤلؤ على امتداد الخليج.
الضباعية عش شهـر العسل المتجدد كانت نقطة
الضوء في حياتي، ففيها عرفت الطمأنينة الحقيقية،
وراحة النفس، وروعة الصمت.
الأضواء أتعبتني..
والميكروفونات أتعبتني..
والولائم أتعبتني..
وصوري في الصحف أتعبتني..
ولن أشعر بإنسانيتي إلا حين أجلس على الشرفة
البحرية لبيتنا الجميل، وحين تتفتح فوقي مظلة
حنانك وعذوبتك..
فأنت خلاصة الحب وخلاصة الشعر، وخلاصة الأشياء
الجميلة.. أنت عشيرتي.. وأهلي.. وقبيلتي..
أنك أسطوري في نبلك وسجاياك. وإنك ملك الملوك
في رقتك وابتسامتك التي لا تغيب عن ثغرك..
ومحمد وأمنية ومبارك والشيماء، عصافير البيت
وفراشاته يحومون حولنا.
من كان يتوقع في يوم من الأيام أني سأتزوجك
وأقضي معك شهر العسل في الضباعية، وأكتشف
رجولتك وإنسانيتك وأخبئ تحت ثيابي من عبق محبتك
قارورة عطر؟
صدقني يا أبا مبارك، لقد كانت محبتك أثمن خاتم
أتحلى به.. إنه خاتم تحسدني عليه الدنيا..
لذلك فإن كلماتي تبدو قليلة أمام طوفان حبك الذي
غمرني أنا وأخي وجعل أيامنا ملونة بألوان الطيف.
يشتعل فكري بذكرك كالشفق..
تذكرت شمس الصحراء القريبة من الشاليه..
وسيارتنا التي قدتها من القصر الأبيض، والمطبات
التي سقطنا بها وسيارة مبارك
العبد الله التي استبدلتها بسيارتك التي اشتعلت من نار
حبنا فتوقفت.
يبدو أن الإنسان في حالات فرحه قادر على أن يحول
الصحارى إلى جنّات تجري من تحتها الأنهار..
كيف الصديق عبد الرزاق معك.. أنا أغبطه على جنونه
لأنه نادر في هذا الزمان أن يتحول الإنسان في عشقه
لامرأة إلى كتلة رماد.. فكان الله في عونه..
أهم ما في عبد الرزاق أنه أضاع عقله واستراح..
فليته يعلمنا طريقته للدخول إلى الجنون
في هذا الزمن.
مشتاقة جداً لزمنك..
ومشتاقة جداً إليك يا أبي.
الرسالة الثانية والعشرون
شيماء
أمس كان يوم المجد..
مجدي، ومجد حضورك للمرة الأولى معي..
في إحدى أمسياتي..
كنت جالسة في الصف الأول.. بفستانك الأبيض
وحذائك الأبيض وشعرك الذي جدّلته أصابع أمك
كخيوط من الحرير الأسود..
كانت عدسات التلفزيون مركّزة عليك لا عليّ..
وكانت الأسئلة تطرح عليكِ فتجيبين عليها بمنتهى
الشطارة والذكاء..
– كم عمرك يا حلوة؟
v عمري.. سنوات في حساب الكيمياء.. وثلاثون ألف
سنة في حساب الحب..
– هل تحبين الشعر؟
v الشعر حياتي..
– هل أنت شاعرة؟
v أنا خلاصة الشعر..
– ما أحلامك؟
v أن يكون لي سرير أخضر.. وحياة خضراء.
– ولماذا الإصرار على اللون الأخضر؟
v لأنه أساس الحياة.
– هل أنت سعيدة؟
v Very much.. very much
– كيف تقضين أوقات فراغك؟
v آكل.. وأدرس.. وأنام في حضن أمي..
– وماذا تحبين من الروائح؟
v رائحة البحر.. إنها وطني.
– وما هواياتك؟
v الاستماع إلى موسيقى كليدرمان مع أمي.. ورش
الماء على وجهها حين تغفو.
أصغي إلى هذا الحوار.. فتشتعل الكبرياء في عيني
مدهشة.. مدهشة.. مدهشة.
جوابها على لسانها.. وهي ذكية كسنجابة وفصيحة
كشريط تسجيل.
يا ربي.. من علّمها كل هذه الثرثرة..!
من علّمها أن تتكلم ولا تسكت!
شيماء..
للمرة الأولى أخرج معك إلى مكان عام..
وأعترف أنك سرقت أضواء الكاميرات مني.
على كلٍ هذا شيء طبيعي.. فنحن شركاء في كل شيء..
شركاء في حب الرجل العظيم.. وشركاء في المجد..
وشركاء في الطفولة.
الرسالة الثالثة والعشرون
أيها الغالي..
الطائرة الكويتية ترتفع وترتفع وترتفع..
وعيناك تطاردانها وتحرسانها وتباركانها لحظة بعد
لحظة.. فما دامت عيناك تقومان بحراستي فمن أي
شيء أخاف؟
وما دام القرآن الذي علقته في رقبتي يحميني به الله
فلماذا الاضطراب؟
إن تاريخي مع الطيران كان دائماً مليئاً بالكوابيس
والهواجس.. منذ ذلك اليوم الحزيراني المشؤوم
عندما اختطف الموت ولدي من بين أحضاني في
طائرة بين السماء والأرض.
القلق الوحيد الذي أصابني هو أن أبتعد عنك..
وأن الطائرة تتجه إلى لندن لا إلى أحضانك.
مشكلتي أن جسدي مسافر إلى لندن وأفكاري
ومشاعري معك في الكويت.
ومشكلتك أنك كلما ابتعدت تكبر.. وكلما ازددت نأياً
تلتصق بي أكثر.
معك لا يبدو السفر سفراً.. ولا الرحيل رحيلاً..
كل الدروب تبدأ منك يا حبيبي وتنتهي بك..
كل المطارات تستقبلك كملك وتودعك كملك..
فكيف أصدق بعد هذا كله أنني مسافرة؟
المقصورة فيها عشرون راكباً جميعهم يشبهونك..
أيها الحبيب الذي جعل سفري مستحيلاً..
وجعل الأزمنة كلها تحت تصرفه.
تزداد سرعة الطائرة ويزداد شوقي إليك..
سرعة الطائرة وصلت إلى النهاية وكذلك حنيني إليك.
أشعر أن أشواقي تسابق الطائرة.
حلو هذا السباق بين محركات الطائرة
ومحركات القلب..
تموت كل الاتجاهات ولا يبقى سوى اتجاهك
وتنطفئ أضواء كل المطارات ولا تبقى سوى أضواء
عينيك البعيدتين.
خلال السفر أبلغوني ثلاث رسائل..
كيف يمكن لامرأة أن تسافر وأنت حبيبها؟
كيف لامرأة أن تدعي الرحيل وأنت تسبح في دمها؟
كيف يمكنني أن أستعمل جواز سفري.. وعليه صورتك؟
ها هي سنجابتي الصغيرة الشيماء تتسلق ذراعي
وصدري. سنجابتي المدهشة الجميلة السوداء العينين
تتحداني وتفرض شروطها عليّ..
تلخبط الزمن بالنسبة لي..
استيقظت بعد نومة قصيرة..
فتحـت شنطـة يـدي فوجدتـك فيهـا..
فتحـت شراييني فوجدتك فيها..
أكلت قطعة من الشوكولاته فإذا بحلاوتك
تسيل تحت لساني.. فهل أنت تسكن أيضاً في
الشوكولاته السويسرية..
للمرة الأولى أجلس إلى مائدة لا تكون فيها على يميني.
إذا طال غيابك فسوف أموت جوعاً وعطشاً.
أين أجد اليد التي تضع في طبقي فتافيت الرز
وفتافيت الحنان؟
القلم الذي أكتب به هو قلمك..
والورق الأخضر الذي أكتب عليه هو ورقك..
والزمن الذي أعيشه هو زمنك..
لا أتصور أنني أملك شيئاً بمفردي.
الرسالة الرابعة والعشرون
نحن في أيلول.. شهر زواجنا..
دائماً كنت أفرح ببدايات المطر.. وبدايات الكتابة
وبدايات مواعيد العصافير الشتوية.
سعيدة أنا بأول أيلول..
أنا أحمل في حقيبتي رائحتك.. وأتوجه إلى ذراعيك..
انتصار عظيم أن يكون الإنسان محبوباً..
وانتصار أعظم أن يكون لك حبيب ينتظرك..
لا أحد يعرف معنى الحب، عندما يكون وراءه رجل
يخرج على جميع الأوصاف والمقاييس..
للمرة الأولى أسافر وأنا أملك المجدين: مجد التخرج..
ومجد حبيبي..
أسافر وأنا أحمل على رأسي تاجين:
تاج الأبوة.. وتاج الصداقة..
للمرة الأولى أواجه أمطار لندن بمظلتك..
وأهرب إلى عينيك من هبوب العاصفة..
وأقطع البحر مشياً على الأقدام..
أنت السند، والبلد، والولد..
كنت تجلس معي تراقب كل كلمة تمر بين أسنان الآلة
الكاتبة، وتطارد معي النقطة والفاصلة.
ولأنك كنت شمعة ليلي فقد سهرت لأنهي كتابة رسالة
الدكتوراه في أقصر وقت.
أشكرك لأنك كنت معي في لندن تراقب خطواتي
الدراسية. أشكرك لأنك وضعت يدك في ذراعي،
ومشيت معي بين حواجز التقاليد، واخترقت معي
خطوط التماس.
يعتقد من في البيت أنك نمت في فراشك،
ولم تبت معي في المكتب تراقب خطواتي الأولى
على طريق المعرفة..
إنـك حقـاً أبي..
الرسالة الخامسة والعشرون
أسماؤك كثيرة يا حبيبي..
فالقمر من بعض أسمائك
والبحر من بعض أسمائك.
والليل والنهار بعض أسمائك.
إنني لا أعرف حقاً أي الأسماء تليق بك رغم أني
أناديك في النهار يا حبيبي..
وفي الليل يا أكثر من حبيبي.
أحمل حبي هذه المرة، وأذهب لأعانق ذلك الفارس.
أحمل مستقبلي الرائع على كتفي وأذهب إليك.
بدأت بعد نيل الشهادة أطمئن على مستقبلي..
وبدأت أتأكد من كينونتي واستمراري وخلودي..
دائماً كنت أحلم أن أصل إلى سر الخلود..
ودائماً كنت أحلم أن يحبني رجل عظيم مثلك..
وأن يكرّرني، وينسخني.. ويضربني باثنين..
في لندن تُـقرّرْ أن تمررني على الآلة الناسخة
لأصبح صورة منك.
في لندن يُقَرّرُ الرجل العظيم أن يكتب اسمي في دفتر
الخلود ويصحبني إلى جامعة ساري.
وفي لندن يقف حبيبي على مرتفعات “وندسور”
ويقرر في لحظة إبداع خارقة أن يطلقني في سماء
العلم والمعرفة..
في الماضي كنت أذهب إلى لندن وأنا شجرة ورد
والآن أذهب إلى لندن وأنا بيدر قمح..
في الماضي كنا اثنين يعيشان في جزيرة
الحلم والتمني..
في لندن أصبحنا نعيش الواقع وصارت الكرة الأرضية
أكثر اتساعاً.. وأشجار لندن أكثر اخضراراً
والعالم أكثر حضارة.
معك كنت قوية ولكنني معك وسلاح العلم بيدي
أصبحت أقوى..
معك كنت جميلة.. ولكنني بالعلم صرت أجمل..
معك كنت شهيرة ولكنني بالتصميم والمثابرة
صرت الأكثر شهرة.
فرحتي قلبت الأشياء كلها دفعة واحدة..
ألغت كل مخططات السفر.. وكل مواعيد الطائرات وكل
الأيام التي ذهبت، والأيام التي لم تأتِ.. وأرغمتني
على أن أسافر باتجاه حضن الوطن..
لم يعد عندي سوى أحلامي في الليل أوسدها على
ذراعي وأنام.. وفي النهار أركض معها على شواطئ
الخليج حيث الأمواج وتراقص سعف النخيل يشكل
خلفية طفولتي الملونة بالفرح..
الرسالة السادسة والعشرون
حبي الأوحـد..
شهيتي مفتوحة على الكتابة إليك..
وإذا كنت أنت تؤمن بالريجيم في كتابة الرسائل..
وتختبئ وراء أصابعك.. فإنني لا أفعل ذلك.
وإذا كنت قد ضيعت مفاتيحك فإنني أحتفظ
بجميع مفاتيحي..
وإذا كنت لا تحب الشوكولاته فإنني أموت بها..
هذا هو الفارق بيني وبينك..
الورقة البيضاء تطالبني أن أملأها..
وأنا لا أحد يملأ أيامي..
الرجل الذي احتل كل الزمن ذهب إلى زمانه العادي..
ودخلت في اللا زمن..
أحياناً، أجد لك العذر، وأسامحك..
وأحياناً، أغضب عليه، وأدين تصرفاته..
وأتهمه بالتقصير..
وأحياناً.. أحس أنني امرأة تحلم أكثر مما ينبغي..
وتتمنى أكثر مما ينبغي..
وأبني قصوراً في إسبانيا لا وجود لها على الخريطة.
صحيح أن إسبانيا جميلة ودافئة..
وكانت ذات يوم تحت سلطان العرب..
ولكنها اليوم ليست تحت سلطاننا.
عندما يجيء صوتك أشعر بالأمان..
كأنني أتوسد سجادة فارسية..
وعندما يغيب صوتك.. أشعر أنهم سحبوا السجادة
الزاهية الألوان من تحتي وتركوني على الأرض.
لا أستطيع أن أقول في الهاتف كل ما عندي..
إنني أشعر وأنا أكلمك بأنني في السجن..
أو في المنفى وأن حريتي مصادرة.
فكيف يصرخ الإنسان عشقاً حين تكون خطوط الهاتف
بين الكويت ومجيف ملتفة على رقبته؟
لماذا نخبئ دموعنا تحت مظلة؟
لماذا نطلب اللجوء السياسي؟
ألا يمكننا أن نترك روضة الأطفال.. ونخرج وحدنا؟
إنني أريد أن أتحرر من حكم الحاشية..
فهل تريد أن تتحرر معي؟
قررت بعد التفكير أن أنفصل عن ثدي الإجازة،
وأتوسل أول طائرة لتأخذني إليك..
إنني أشتهي العيش في أحضان قلبك،
فهل تحقق طموحي؟
الرسالة السابعة والعشرون
أيها الحبيب.. الحبيب..
أنا مطار الإقلاع.. وأنت مطار الهبوط.
والرحلة مستمرة حول العالم..
عالم عينيك المفتوحتين..
أنا مطار الجنون..
وأنت مطار الحكمة والهدوء والغفران.
قل لبرجي المراقبة أن يسمحا لي بالهبوط.
لم يعد عندي وقود يكفي للطيران حول مطارك
المضرب عن الحب..
لم يعد عندي ماء ولا طعام..
لم يعد عندي شاي ولا قهوة..
كل المضيفات لا يهتممن برغباتي..
كل الركاب يقرؤون جرائدهم ولا يهتمون بأفكاري..
أنا وحدي التي تربط الحزام قبل أن تركب الطائرة
وتستعد للهبوط قبل أن تُقلع.
أفتح مدارج شوقك أمامي.
أفتح صالة الشرف فأنا حبيبتك وصديقتك فوق العادة
وعاشقتك فوق العادة..
أفتح صدرك لي فأنا خائفة.. وضائعة.. ومكتئبة من جو
لندن الرمادي..
سأقول لك كلاماً جميلاً وسأحتضنك كما أفعل دائماً.
“الكويتية” حبيبتي لأنها كانت تتعهد دائماً أن توصلني
إليك.. وهي المسؤولة وأكيد أن مجلس إدارتها سيقدم
لنا وردتين في آخر العام، باعتبارنا من الركاب الذين
يختلفون في القلب والفكر عن الآخرين.
يا كل العمر..
تعليقاً على هذياني أريد أن أقول لك إن الرجل المحفور
في لحم المرأة هو أنت.
شهدت معك في مقصورة القيادة في الطائرة مولد
الشمس فوق المحيط الأطلسي ذات صباح..
تذكرت ولادة القصيدة.. حين تخرج من أعماق
الشعراء مضرجة بالدم، والنار، والعقيق..
تذكرت ولادة الأطفال عندما يخرجون من أرحام
أمهاتهم، وهم مضرجون بالحب والحلم.
في الولادات كلها يحدث الشيء ذاته؛ هناك دائماً لون
وردي.. وانبثاق ينابيع.. والتماع برق.. وصرخة تشق
قشرة الأرض.
كنت منبهرة ومشدوهة وذاهلة أمام هذه الثواني
المضرجة بآيات الخالق..
سعادتي عظيمة لأنني معك.
ففي عاليه شهدنا ولادة مبارك.. وفوق الأطلسي شهدنا
ولادة شمس.. وكل يوم نشهد ولادة حبنا.
ومعك هناك دائماً شيء جديد.. وقمر جديد وكواكب
جديدة.. ومسافات جديدة.. واحتمالات جديدة.
معك دائماً شمس تطلع..
فابق شمس حياتي.
الرسالة الثامنة والعشرون
يا حبيب الليل والنهار..
الرحلة الأخيرة علمتني ما لم أكن أعلم.. علمتني أن
الانفصال عن رجل نحبه مهمة مستحيلة.
وأن السفر بالاتجاه المعاكس، هو سفر إلى النقطة التي
انطلقت منها.
علمتني الرحلة أيضاً مفارقات الجغرافيا.. وإلا فمن
كان يصدق أن تختلط الأمكنة فتصبح لندن الكويت
وBear Place القصر الأبيض.
في لندن عملت عملين عظيمين، المداومة على الدراسة
والمداومة على حبك..
ربما كانت المداومة على حبك، هي التي قوّتني جسدياً
وفكرياً.. وجعلتني أقطع المسافات الطويلة بطموح
حصان عربي.
في زحمة الدراسة.. وضجيج الطلبة، كنت أفكر أن
هناك رجلاً ينتظرني.. فأزداد ركضاً ووثوباً نحو الهدف.
ما أشقى امرأة لا ينتظرها رجل تحبه..
وما أشقى امرأة لا تجد الرجل الذي يغسل
عن جبينها تعب الأيام، ويطعمها اللوز والسكر
ويسمعها أجمل الأغنيات..
في لندن أصبحت متأكدة أنك نقطة ارتكاز العالم،
وأن الكرة الأرضية من دونك تصبح سديماً لا نظام له.
كل هذا الكون.. وكل خطوط الطول وخطوط العرض..
وكـل المحيطـات والمجرات والأفلاك..
تموت إذا رفعت يديك عنها.
كل أزهار الأرض تصبح أزهاراً اصطناعية
إذا لم تشرب من ماء عينيك..
لماذا يصبح العالم من دون معنى حين نفترق.
لماذا يصبح كل من حولنا غرباء، وابتساماتهم
من شمع وكلامهم سقيماً مملاً..
لماذا تنكسر العلاقات الاجتماعية لدي كما يتكسر
الإناء وأصبح عاجزة عن المجاملة وتقديم
التنازلات للآخرين.
لمـاذا تصبح أعصابي معلقة بشعرة، ورفيعة كأسلاك
الزجاج.. ومتفجرة كعبوة ناسفة..
إنني أعتقد أن الحب الكبير لا يتحمل الضوضاء
والثرثرة والحوار الغبي.
هذه هي الأنانية.. سمها ما تشاء ولكنني كلما تطرفت
في عشقي ازددت توحشاً وغربة عن الآخرين.
نحن متشابهان والفرق بيننا أنك عود كبريت
وأنا جدول ماء.
أنت حبيبي.. ومليكي وقوميتي وانتمائي ولغتي وتهوري
واتزاني وغضبي وثورتي وأمي وأبي وذرّيتي وثقافتي
وأفكاري والسيف الذي أفتح به الدنيا وراية العشق التي
أزرعها فوق أعلى قمة في العالم.
الرسالة التاسعة والعشرون
أيها الغائب.. الحاضر فينا..
ماذا أقول لك؟ وماذا أقول عنك؟
فاللغات كلها لا تستطيع أن تحيط بك وبلاغتي تلهث
وراءك ولا تقدر أن تلحق بك.
لمـاذا أنت مرتفع وشاهق، مضيء وباهر ونبيل، وأصيل
إلى هذا الحد؟
لقد أتعبتني حقاً.. أتعبتني جداً.
فالقمم العالية تتعب والشموس العالية تتعب.
إن الصعود إليك صعب.. صعب.. صعب..
فانزل إليّ قليلاً لأتمكن من تقبيل عينيك..
انزل إليّ لأتفاهم معك فلقـد نسيت أن أقول لك إنك
عشيرتي وقصيدتي وأمي وأبي..
هل تعرف أنك أبي؟
إن أبوتك تحاصرني في كل مكان بحيث إذا مشيت
خطوة ولم تمسك بيدي وقعت..
وإذا تجولت في المدينة ولم تكن معي ضعت..
وإذا دخلت امتحانات دون أن تساعدني سقطت.
لقد أفسدتني بحنانك..
فلماذا تلخبط أيامي وتجعل الأسابيع والأشهر والأيام
والدقائق مثل فتافيت الورق، تطير كلها وراءك؟
لماذا احتللت جميع مداخل حياتي؟
حاولتُ في لحظات الغباء أن أقاومك ولكن هل تقاوم
الشجرة أوراقها، والجنين أمه؟
عندما ذهبت، ذهب التاريخ معك.. تاريخي.
باختصار بيتنا صار صحراء الربع الخالي..
ألم أقل لك إنك أبي وإنك أمي؟
وإني مرتبطة بك بحبل المشيمة.
هذا النهر من الحنان الذي ينبع من عينيك أصبح
النهر الوحيد على خارطة العالم..
ووجهك أصبح كل الجغرافيا.. وكل التاريخ.
أيامك ذهبت ولم تذهب..
وصوتك وشم محفور في القلب ولا يزال يشعل الحرائق
في الذاكرة.
مرعبة هذه الذاكرة.. إنها تعيد جميع التفاصيل بالأزرق
والأحمر والبنفسجي والوردي وتعيد كل الروائح
والأصوات والخطوط كما يفعل شريط الفيديو.
سلام عليك أيها الملك.
سلام عليك أيها الفارس.
سلام عليك يا قصيدتي المكتوبة بماء الذهب
ودم القلب.
الرسالة الثلاثون
أيّها القريب.. البعيد..
“أقول لك إيه عن الشوق”..
لا أدري؟
ففي فمي ماء.. وماء ورد.
بعد ساعة يسافر الأولاد..
أبقى وحدي مختلطة بدموعي..
سيطق قلبي حزناً وانكساراً.. وسيدخل في اليتم.
ألحق الطائرات المتجهة إلى الخليج..
أسأل عن عزوتي..
أيّها المكتظ بالثمر والهدايا علمني الحب..
وأعدك أن أكون تلميذة مجتهدة.
يا أكثر من حبيبي..
صعب عليّ أن أشطب من ذاكرتي هذا المكان الجميل
والمشاوير الرمادية.. ورذاذ المطر الإنجليزي..
إن المكان أصبح محجوزاً باسمك.
لا أستطيع أن أقتلع نفسي من هذا الكون الخرافي الذي
أصبح جزءاً من سلامي وطمأنينتي.
لا أستطيع أن أقتلع نفسي منك..
فأنت مصدر حياتي.. ومصدر الحلم.. واللون الأخضر.
من الكويت إلى مجيف إلى لندن تتجه كل القطارات
إليك.. وكل الطائرات إليك..
وكل المراكب إليك.. وكل حياتي إليك.
أنا امرأتك التي تتوضأ بصوتك كل صباح..
وتنام على حرير كلامك كل مساء..
أنا امرأتك التي كسرت بشِعرها زجاج الأبجدية.
في محاولة يائسة لملامسة قامتك..
حضورك يبدد خوفي ويعيد لي الثقة..
ويشعل نار الحب في أرجاء البيت..
حضورك يفتح القلب بعد أن سد الحزن الرمادي أبوابه.
لقد أعطيت حياتي طعماً مختلفاً.. وأعطيتني القناعة
بأن الحب سلاح خطير بإمكانه أن يفتح الممالك..
فهو ملك الملوك.. وهو سلطة فوق السلطات..
وهو المعرش على جدران الذاكرة.
إنني من غيرك، بغير توازن.
شكراً على الزمن الخرافي الذي أعيشه معك..
وعلى الزمن القادم الذي ستعطيني إياه.
كن دائماً جزيرتي.. ومحطتي.. وحبيبي.
الرسالة الحادية والثلاثون
يا أحلى ما في العمر..
وصلني صوتك فنعمت بمواسم الورد لوناً ورائحة..
أدام الله علينا موسم الورد الأحمر..
إذا كان الشتاء قد ضرب شرفتنا الشاعرية في
الضباعية.. ولخبط الكراسي.. واستكانات الشاي
وفناجين القهوة..
فهو قد ضربنا أيضاً في لندن فأسقط المطر..
وأسقط الثلج.. ولخبط أوراقي وطيّرها مع الريح..
وطيّر قلبي باتجاه الكويت.
على أن الشتاء برغم عصفه وزمهريره يبقى سيد
الفصول.. لأنه يغيّر إيقاع أيامنا.. ويغيّر فصيلة دمنا..
ويكسر روتين حياتنا.. ورتابة ساعاتنا..
صحيح أن الشتاء يجرفنا، ويغرقنا، ويدمّرنا.. ولكننا
لا نلبث أن نخرج من رمادنا كما تخرج شقائق النعمان
من رمال باديتنا.
إننا دائماً بحاجة إلى (خضة) من حين إلى آخر..
أو إلى زلزال صغير يغيّر خريطتنا النفسية..
ويلغي ذاكرتنا.. ويزرع السنابل على أصابعنا.
ربما كان أهم ما في رحلتي إلى السودان، هي أنني
أشعلت في الحياة الثقافية ناراً فأحرقت واحترقت..
وهذه هي ذروة طموحي.
سلام عليك قبل السفر..
وسلام عليك أثناء السفر..
وسلام عليك بعد السفر..
يا الذي لولاه لكان العالم مثل الربع الخالي.
يا صانع المدن.. والحضارات.. يا صانعي.
يا الأحلى دائماً.. يا الأغلى دائماً..
يا المحفور في حدقة العين دائماً..
صلِّ من أجلي..
وكن معي دائماً.. حتى يكون الله معي..
يا أبي الثاني.. بل يا أبي الأول.
أحبك.
الرسالة الثانية والثلاثون
يا عمر العمر..
ها هي البطاقات التي كنت تكتبها لي..
مفكرة تحمل كل حنان الدنيا.
ما أجمل أن يكون هناك إنسان نحمله معنا في حقيبة
يدنا حيث ذهبنا..
ونتبلل معه بالمطر..
ونطمر أنفسنا معه تحت الثلج..
ونسهر معه على التلفزيون..
ونرى وجهه في كوب الشاي الصباحيّ..
ونجلس معه على شاطئ الخليج..
ونصعد معه برج إيفل..
ونتمشى معه في غابة بولونيا..
أو في متحف اللوفر أو في شارع السانت نوريه..
أو نلبسه تحت كنزة الصوف ومعطف المطر
في شتاء أوروبا..
أو نسبح ونغرق معه في البحر الكاريبي.
لقد حملتني كثيراً من الكويت إلى القاهرة،
وإلى لندن حتى أتعبتك..
أعترف أنني أتعبتك..
وأعترف أنني أتعبتك..
ولكن ما حيلتي إذا كنتَ كبيراً
أكثر من اللازم..
وفارساً أكثر من اللازم..
وغارقاً تحت أمطار حناني، وأنا غارقة في عشقك
من رأسي حتى قدمي.
ما أسخفني حين كنت أناقشك في الماضي كلما دخلنا
هذه المدينة العظيمة..
وما أغباني حين اهتممت بالهوامش الصغيرة،
والتفاصيل الصغيرة، والأمواج الصغيرة،
ونسيت البحر الكبير.
لن أهتم بعد اليوم إلا بك..
سأكتفي بسماع سيمفونية البحر العظيمة..
وسأرمي نفسي فيه دون طوق نجاة.
ابق دائماً معي تدعو لي فحنانك لا يعوضه أي حنان آخر.
شكراً لك على كل شيء..
فأنت حقاً أبي.
الرسالة الثالثة والثلاثون
يا خلاصة كل الأزمنة..
جاءني صوتك مبللاً بالحنان، والتمرد، والثورة..
كيف تستطيع أن تجمع في صوتك رقة الماء ونار الثورة.
كيف تستطيع أن تكون الزهرة والجمرة في آن واحد..
كل يوم بعد كل هذه السنين الطويلة أقول لنفسي إنني عرفتك..
وفي اليوم التالي تصحح معلوماتي.. وأكتشف أنني لم
أعرفك.. وأنني مقصرة معك إلى درجة الغباء..
كل يوم تأخذ في الحب 100 على 100..
وآخذ أنا صفراً.. في الركض وراءك..
انتظرني لحظة أرجوك..
فقد انقطعت أنفاسي..
أعطني فرصة.. لأستحقك أيها العظيم.
كل يوم أقول لنفسي برافو عليك يا بنت.. لقد أبدعت..
ونجحت في حبك..
ثم أشعر أنني صغيرة أمام قدراتك الهائلة على
الحنان وعلى الإبداع..
نعم وجدت الكلمة.. إبداع..
إن إبداعاتك في الحب شيء يتجاوز العقول.
كنت أتصور نفسي ملكة على جميع مدن الحب ولكنني
اكتشفت أنني صفر في الحب.
أنت عزلتني.. وأنزلتني عن العرش..
وصادرت كل ممتلكاتي..
أنت الرجل الذي أبدأ معه من حرف الألف فأرجوك
طوّل بالك عليّ..
سامحني إذا تلعثمت.. أو تأتأت.. وأنا أحاول أن أعبر
أهم زلازلي الداخلية.
سامحني أيها الفارس العربي، إذا لم أستطع اللحاق
بك.. فأنت أسرع من الصوت.. وأنا أتعثر أمامك
بأمواج صوتي..
لم أعد قادرة على الدخول معك في أي مباراة حب..
كل المباريات أنت ربحتها..
وكل الميداليات أنت قطفتها..
حاولت أن أغير قواعد اللعبة..
أن أذبح الطاووس.. وآكل لحمه..
ولكنك سخرت مني..
لماذا أثير هذه الأحاديث؟ ربما لأنني مشتاقة إليك
أكثر من اللزوم.. وربما لأنني أريد أن أسافر فيك دون
تأشيرة عودة..
هذه هي حقيقة أحزاني السرية.. فسامحني على إفشاء
أسراري بين يديك.. لأنني أكثر من أحبك..
الرسالة الرابعة والثلاثون
يا الذي لا أروع ولا أعظم منه رجلاً..
ورائي الكويت، بكل حرائقها، ومشاكلها، ووجهها
المحترق بآبار النفط.. وأمامي أنت بكل بساتينك
المملوءة بثمر الحنان.. وعينيك المكتظتين بالنجوم..
ووجهك الذي تشرق منه الشمس.. شمس حياتي.
ورائي نهرُ الدم.. وأمامي نهر الندى والبنفسج..
ورائي الخوف والقلق.. وأمامي السلام والطمأنينة..
ورائي بيت محترق.. وأمامي رجل يعوضني كل شيء
عن البيت والمجوهرات والمكتبة واللوحات..
رجل هو مجدي الحقيقي.
أطلب كأساً من الماء لأشرب حبة من “الفاليوم”.
أحبك.. أحبك.. أحبك.
أُحب هذا الشبل “محمد” الذي لم يفارقني وأنا أتجول
في قصرنا المنهوب والملطخ بعار الجنود ورئيسهم
الذي فر على عجل وترك كأسين من الويسكي وأطباقاً
من المازة في غرفة نومك..
أحبك..
أرجو ألا يخطر ببالك أن الفاليوم هو الذي يحرضني
عليك.. إن حبي لك غير كيميائي.
أنت رجل يعرف مسارات دمي.. رجل لا يتكرر..
فحبك تصوف.. اقبلني كما أنا بوجعي، وتناثري
وانكساري، وإحباطي.
ليس هناك في العالم من يستطيع أن يحتويني.
ويُلملمني ويقنعني بأن رجلاً في العالم أحن منك
أو أعظم منك.
كل وجع الدنيا يتكوم على صدري.. وكل مساحة من
جسدي تطلب مني أن أعشقك أكثر.. وألتصق بك
أكثر.. وأموت بك أكثر.
هذا هو القصر الأبيض عن يميني..
أتذكر عزّ هذا المكان.. وعنفوان صاحب المكان.
أتذكر اليوم الأول الذي دخلت فيه القصر في سيارتك
الكاديلاك البيضاء وأنا قربك كحمامة حطت على
كتفك.. قَبِلتْ بقيادتك للسيارة..
وقَبِلتْ أن تكون قائد حياتها..
أتذكر الرجل الخرافي الذي جاء من آخر الدنيا
ليخطفني على ظهر حصان، ولم يخذلني في حياته مرة.
الحديقة بعد الغزو الصدامي أصابها القحط..
تساقطت أوراق الأشجار وحمل النخل في غير وقته..
وترامت قاذوراتهم في أرجائها.
من الصعب أن أرى شيئاً متعلقاً بتراثنا العاطفي فاقداً
عذريته ولا أبكي.
اليوم أول أيام رمضان.. مشكلتي معك أنك أصبحت
في طعامي وشرابي..
ولا يمكنني أن أرفض فنجاناً من القهوة أو استكانة
من الشاي تعوم على وجهها.
أحبُّك.. أحبُّك.. أحبُّك..
ولا دخل لحالتي النفسية فيما أقول.. ولا دخل لك فيما
أقول.. المطلوب منك أن تسمعني، وتقول صدقت
سعاد.. وصدق الحب العظيم.
الغيم تحت الطائرة منتف كَغَزْل البنات..
أتذكر قصرنا.. أتذكر ذاكرتنا التي سرقوها..
أتذكر شعر أولادي المتناثر وثيابهم المنسية
على أشجار النخيل..
أتذكر البيت الدافئ.. والتفاصيل الصغيرة الصغيرة..
وتوقظني المضيفة من أحلامي.. وصلنا لندن.
أحبّك.. صدقني أنا أحبّك والغيم متناثر، وبيوت ساري
وجلفورد كأنها بيوت ميكي ماوس.
وأنا في طريقي إليك عقلي يكاد ينفجر من فرحي
بلقائك وحزني لما رأيت في الكويت.
فافتح لي ذراعيك.. فأنا بحاجة إلى النوم.
الرسالة الخامسة والثلاثون
عبد الله..
هذه وثيقةُ حب..
أوقعها بعد أربعين عاماً.. وسوف أوقعها بعد
خمسمئة سنة.. بعد خمسة آلاف سنة..
ولا أشعر بضرورة حذف أي حرف منها..
أو إضافة أي حرف إليها..
“أحبك” هذا هو النص التاريخي الذي أصبح تراثاً
تدرسه الأجيال بعدك.. ومن بعدي..
“أحبك” أربعة حروف فقط، تساوي كل الأبجديات، وكل
الكتب، والمكتبات، وكل الأناشيد، وكل الملاحم..
“أحبـك” مكتوبة في كل مكان قبل أن تكون الكتابة، فهي
الكلام الذي لم أقله، وفي الأحلام قبل أن أحلم بها،
وفي أعياد ميلادي التي لم أحتفل بها..
اليوم، فكرت وقررت وحدي أن أوقع بأني أحبك،
وسأغمض عيوني وأوقع لك..
على زرقة البحر سأوقع لك..
على حبات المطر سأوقع لك..
على ذرات الثلج سأوقع لك..
على زجاج القمر سأوقع لك..
علـى الثلـج..
علـى النـار..
علـى دفاتـر الشعـر..
على فناجين القهـوة السـوداء..
على جسـور فينيسيـا.. وغابات فيينا.. وخلجان
باربيدوس..
وعلى شجرات الأرز في لبنان..
وعلى معبد أبي سمبل.. وعلى بنادق الجنوبيين..
وعلى ذهب رمال الخليج العربي..
عبد الله.. يا رفيق الأيام الخضراء.. ويا صديق العمر
الجميل.. عندمـا تزوجتـك.. اكتشفت معك للمـرة الأولى
اللون الأخضر.. وفرحت باكتشافي..
رأيت العالم معك.. بألوانه الحقيقية..
قبلك كان العالم مرسوماً بالأبيض والأسود..
“أبو المبارك” يا الذي لا أعرف ماذا أسميه؟!..
علمتني كيف أقرأ معك للمرة الأولى كتاب الألوان..
وكتاب الغابات..
وكتاب الأزهار..
وكتاب القيم والمروءات..
وكتاب الحرية..
وكتاب الحب..
وكتاب الأمومة..
وكنت مأخوذة بقراءاتي معك..
تعلمت كيف تتكئ الغيمة على كتف السماء..
وأتكئ أنا على كتف حنانك.. حتى لا أفقد التوازن..
يا سيد هذا الكون..
عندما رحلت.. رحلت الألوان.. واختل توازني..
الرسالة السادسة والثلاثون
عبد الله يا حبيب العمر
أكتب إليك..
لأن الكتابة تحررني من الخوف..
وألجأ إليك كي تحميني وتقويني في هذه المنطقة
العربية المشتعلة بمشاكلها..
والمطحونة تحت عجلات المادة والاحتكار والأنانية..
وأنا الأنثى التي لا صديق لها إلا أنت..
فرغم مرور هذه السنوات على غيابك إلا أنك لا تزال
الزوج الرائع الذي أستطيع أن أبوح له بكل شيء..
فالكتابة إليك حاجة نفسية كحاجة النهر لكي يفيض..
وحاجة الدمعة لكي تسيل، وحاجة الطفل لكي يصرخ،
وحاجة العصفور لكي يطير.
اليوم يا حبيبي كان يوم عيدك..
وأنت لست هنا.. ولكنك دائماً بين أجفاني..
كما أنت بين أجفان أولادك وأحبائك كلهم.
عام آخر يمر، وأنت كحقول العنب تزداد
في ذاكرتي حلاوة..
عام آخر، وأنت كماء الورد المحفوظ في سراديب
الذاكرة يزداد مع الأيام نكهة ومذاقاً.
عام آخر.. وأنت كشجرة السنديان تمّد ظل ذكراك
علينا كباراً وصغاراً.. وتغمرنا بالدفء والعافية.
عام آخر.. وأنت في حياتنا الملك.. والسلطان..
والرجل الذي لا يعاد مرتين.
عام آخر يمر.. وأنت الغائب الحاضر في ذاكرتنا،
ثق أنك دائماً تنام بين أجفاننا.
الرسالة السابعة والثلاثون
سألت نفسي اليوم، كما أسألها كل يوم: ترى ما الذي
يشغلني عنك؟
أردت أن تعرف أن أمواج البحر، إن هدأت هي أو ثارت
وعلت بيضاء يلاحق بعضها بعضاً كما الغيوم الهاربة
في السماء الصيفية
هذه لا تشغلني عنك..
وأن هموم الوطن الصغير ومفازات الوطن الكبير بكل
ما تحمله من عذابات وقلق وأحلام لا تشغلني عنك.
وأن صوت الرعد، وكم يذكرني بك، وصوت البرق الذي
يخطف البصر بضوئه الخلاب.
وأن صراخ الأولاد والحفدة، يلعبون في حديقة الدار أو
ينهبون بعض الورد فيها، أو يتنادون إلى الألعاب الذكية
في غرفة مدوزنة بموسيقى الكومبيوتر
كل هذا لا يشغلني عنك.
قراءة الصحف، الموسيقى، السفر، هموم العمل وهموم
الناس التي أحمل على كتفي يوماً بعد يوم، فتجعل
الإرهاق صديقاً دائماً لروحي، والبحث عن لحظة فرح
حلم، أو ما يشبه الحلم.
كل هذا لا يشغلني عنك.
هل تعرف يا سيدي إذن ما الذي عنك يشغلني كل
ساعة عمر؟
أنت وحدك تشغلني عنك فتابع رحلتك في الدورة
الدموية وحين تتوقف عند القلب، نادني لأعرف أنك
وصلت إليه، للمرة الألف بعد الألف، بعد الألـف.
الرسالة الثامنة والثلاثون
يا عمر العمر..
عصفورة مرهقة متعبة.. أنا تطاير ريشها عبر المحيط
أبحث عن غصن شجرة خضراء.. أو صفراء أو عـن
قطرة ماء.
ما الذي يشتهيه الطفل داخلي أكثر من يد حنونة تمسح
دمعة حائرة عن وجنتيه المتوردتين بالقلق والحياء.
ما الذي تشتهيه الصبية في أعماقي أكثر من أن تجدل
لها شعرها الليلي المتناثر على قارات العالم.. وتزرع في
أعماقه وردة بيضاء..
ما الذي تتمناه العاشقة الطالعة على الدنيا أكثر من
عاشق تهرب من عينيه إلى عينيه ومن يده اليمنى إلى
يده اليسرى، ومن قلبه إلى قلبه، ومن عقله إلى عقله،
ومن حاضره إلى الذاكرة، ومن الخاصرة
إلى الخاصرة..
ترى هل يتبلل الصغار بماء العشق؟
وهل تفتح لهم نوافذ الجنون فيقطفون الورد المعربش
على بوابات القلب..
هاربين من الوله الذي يستوطن ضفة العينين..
في ليل المدن الملون بنفايات الحضارة وفي الفجر
الرمادي اليتيم.
من دونك.. من أنا؟
عين ضاعت أهدابها..
وقرنفلة تبحث عن رائحتها..
وغابة احترقت أشجارها..
وأنثى تبحث عن كف رجل تتكئ عليها
استحضرتك في ذاكرتي مبللاً كالبنفسج..
وأمارس طقوس عشقي الأبدي لك
فيتساقط ذهب الشمس من صوتك..
ويعلو صوت البلابل.. ويتحول الفجر الأناني إلى لوحة
ألـوان، ومعرض أزهار.
وكأن العمر في بداياته الأولى.. ألملمه كي أعلن
انتصاري على النهار
استحضرك لأنك الملح الذي يحفظ ذاكرتي
من التعفن..
ويحفظ تاريخي من الاندثار.
أنا من غيرك مجرد إشاعة..
وأنا من غيرك كذبة تبثها صحف الصباح..
وأنا من غيرك لغة من غير حروف
وأنا من غيرك بحر تخلى عن معطفه الأزرق..
فشكراً لك لأنك أعطيت لليل عينيك، وتركتني أتجول
فيهما، فمساحة عينيك غطت ليل الغربة.
شكراً.. فثراؤك العاطفي المخزون تحت جلدي، يشعل
حطب الذاكرة فيدفئني، وأنا أواجه صقيع المستشفى..
ويعطيني مفاتيح الأمان، وأنا أواجه الأطباء.
في هذه القارة المترامية الأطراف، والمتعددة الأجناس
والأديان، والمعتقدات، والألوان، واللهجات دخل الإنسان
فيها ماراثون تحطيم الرقم القياسي للسرعة، واخترت
أنا فيها مكاناً قصياً، كل ما حولي مرسوم بالأخضر.
إلا أنني أشعر بالتصحر كأنني أعيش فوق بحر
شديد الملوحة.
فكيف أشجر صحراء نفسي وقد أكلني الملح؟؟
ملوحة الأسئلة.. وملوحة القلق.. وملوحة البعد.
أعود للمكان المصبوغ بالبياض، القلوب البيضاء،
والأسرة البيضاء.
والحيطان البيضاء، وعيون الرحمة والمودة التي
تعانق وجعي.. وتحاول تخضير ساعات يومي،
وقتل ساعات ليلي..
ما أعظم الإنسان عندما يكون إنساناً
هذا هو سر التفوق.
الرسالة التاسعة والثلاثون
عبد الله.. يا أحلى الأسماء
ترحل.. وتقفل الباب على زمن رائع عشته معك..
وبعدما تسربت من بين أصابعي معك عشرات الأزمنة،
من الزمن الكويتي.. إلى الزمن اللبناني..
إلى الزمن المصري إلى الزمن السويسري..
إلى الزمن الإنجليزي.
أشعر أنني تعبت.. وأن الوقود في سفينتي بدأ ينفد..
وأود أن أعترف قبل أن أقفل باب زمني حيث خبأت
أجمل أيام عمري، وحيث دفنت أثمن كنوزي،
بأنك كنت بالنسبة لي كل المدن.
أنت منحت المدن أهميتها، وحضورها.. وحضارتها..
وسلامها.. وزرقة بحيراتها وبياض ثلوجها.
المدن دونك إشاعة كاذبة.. ووهم كبير.
ولأنني معك كنت في حالة عشق دائم..
فإن مصدر فرحي هو أنت.. لا المدن.
إن المدن ليس لها حضور بذاتها وإنما تكتسب حضورها
من حياة البشر..
وأحلامهم.. وأفكارهم.. وأفراحهم.. وأحزانهم..
ومعاناتهم اليومية..
واكتشافاتهم.. وانفعالاتهم.. وقلقهم العاطفي..
وشؤونهم الصغيرة.
نحن نصنع المدن لا هي التي تصنعنا.
نحن نصوغها على طريقتنا.. لا هي التي تصوغنا.
نحن الذين نطلق على المدن أسماءها..
ونحدد جغرافيتها.
إن فينيسيا لم تشتهر بأقنيتها المائية.. ولكن بعدد
العشاق الذين يتغنون بالحب على وسائد جندولاتها.
يا سيد كل المدائن..
بكل الحب.. أقول لك إن أي مدينة ليست سوى
إحدى كانتوناتك.
وستبقى دشداشتك التي ودعت بها العالم وأنت بين
يدي.. طازجة تتكلم معي بلغة لا يفهمها أحد سواي.
وسيبقى جيمس last.. وشوبان.. وأم كلثوم..
وعبد الحليم حافظ.. وربابة عبد الله فضالة تعزف
تلقائياً إلى نهاية العمر.
وستبقى أنفاسنا.. وحواراتنا..
وحماقاتنا تتنفس في كل الزوايا.
هل أقول: شكراً على الزمن الاستثنائي الذي منحتني
فيه السلام مع نفسي..
وأوصلتني مرفأ الأمان.
أم أقول لك:
شكراً لحبك فهو معجزتي الأخيرة..
بعدما ولى زمان المعجزات..
سأكتفي بأن أقول:
شكراً لله لأنك لازلت القمر في سماء حياتي.
الرسالة الأربعون
رسالة إلى ولدي محمد
يا محمد، يا ضوء العينين:
أنت الآن تستقبل عامك السابع عشر..
وسعيدة أنا جداً، حين أراك تنفض عنك زغب الطفولة،
فيخشوشن صوتك، وترتفع قامتك.. ويرتسم شاربك
الأسود الصغير كهلال مرسوم بقلم الرصاص فوق
شفتك العليا..
سعيدة أنا بتحولك من مهر رقيق..
إلى حصان جميل يملأ الفضاء من حوله صهيلاً،
وطموحاً، وعنفواناً.. وسعيدة أنا حين تتجاوزني طولاً..
ولسوف أكون سعيدة أكثر حين تتجاوزني عقلاً، فالعقل
زينة الرجال، كما هو زينة النساء.
أكتب لك هذه الرسالة باللغة العربية، لأؤكد نقطة
مهمة وهي أن الحوار بين امرأة عربية وابنها يجب أن
يكون باللغة العربية، وإلا كان حواراً زائفاً ومصطنعاً.
إنني أكتب بلغة آبائك وأجدادك، وبني قومك بعدما
لاحظت أنك وأصدقاءك، عندما تجلسون إلى مائدة
الطعام معنا، تستسهلون الكلام باللغة الإنجليزية مرة،
وباللغة الفرنسية مرة أخرى..
وأنا بالطبع لست ضد إجادة اللغات العالمية، والنطق
بها كأهلها، لأنني أعتبر العالم وحدة ثقافية واحدة.
ولكنني لا أريد بكل تأكيد أن تعتبروا اللغة العربية لغة
هامشية، أو (بيتوتية) لا تنفعكم في دراستكم العالية،
وفي حقول تخصصكم.
إن اللغة يا محمد، ليست زياً نلبسه ونخلعه حين نريد،
ولا هي عقار نبيعه حين نشاء..
ولا هي ورقة لا لزوم لها نرميها في سلة المهملات..
فاللغة هي الوثيقة الوحيدة التي نحملها لإثبات هويتنا،
وإثبات انتمائنا إلى أرض ما.. وشعب ما.. وحضارة ما..
ومن دون هذه الهوية، سوف نكون كائنات هلامية تسكن
في العدم أو في الفراغ..
النقطة الثانية التي أود أن أحاورك فيها، هي قضية
الانتماء إلى بيت، ووطن، وتقاليد..
إنني أعرف أنك وإخوانك تدرسون في أوروبا، وتتأثرون
بمصادر الثقافة والفكر الأوروبية، كما تتأثرون
كالأسماك الصغيرة بكل تيارات
الحضارة الأوروبية وصرعاتها وجنونها، ومخترعاتها
المرئية والمسموعة..
وطبعاً أنا لا أستطيع أن أمنعكم من أن تعيشوا
عصركم، ولا أستطيع أن أجبركم أن تعيشوا عصري،
فلكل عصر فلسفته ومنطقه وأفكاره..
ولكن ما أريده منكم دون أي إكراه أو جبر أن تحتفظوا
بأصالتكم كعرب كويتيين، لهم جذورهم، ولهم تراثهم،
ولهم تاريخ طويل من الشجاعة، والشهامة، والمروءات.
أنا لا أريد، ولا أستطيع أصلاً، أن أحبسكم في قارورة
زجاجية كأسماك الأكواريوم، وأمنعكم من استنشاق
هواء الحضارة الأوروبية، فهذه فرصتكم، لتعرفوا،
وتبحثوا وتكتشفوا.
ولكن نصيحتي –وأعتقد أن من حقي كأم أن أنصح–
ألا تذوبوا في محيطكم الجديد، وتفقدوا شخصيتكم،
وأسماءكم، وخصائصكم..
عوموا في أي بحر من بحار الشمال تريدون.. ولكن
إياكم أن تذوبوا في مياهه.. وادرسوا في أي جامعة في
العالم تنتقونها، ولكن تذكروا دائماً أن هناك وطناً
اسمه الكويت.. ينتظركم ليأخذكم إلى صدره، وينتفع
بعلومكم ومعارفكم.
ابق دائماً يا محمد، بجواز سفرك الكويتي..
فلن تستطيع أن تكون إنجليزياً..
ولن تستطيع أن تكون سويسرياً..
إن كل المواطنين العرب الذين تجنسوا بجنسيات
أخرى.. ظلوا على هامش مجتمعاتهم الجديدة فلا
عرب أمريكا استطاعوا أن يصبحوا أميركيين، ولا عرب
بريطانيا استطاعوا أن يصبحوا نواباً في مجلس
العموم.. أو أعضاء في مجلس اللوردات..
ابق كويتياً يا محمد.. كما كان أبوك كويتياً، وكما كان
جدك، وأبو جدك، وأعمامك، وأخوالك.. كويتيين..
ابق على هذه الأرض الطيبة يا محمد..
ففيها كل الخير والبركة.. فلن تجد أرضاً أجزل منها
عطاء وأكثر منها سماحاً.
والله يرعاك بعنايته، يا صديقي.. ويا حبيبي..
الرسالة الحادية والأربعون
محمد.. ولدي.. أيّها الصديق الرائع..
إنني ألجأ إليك لأتحرر من الخوف الذي أشعر به.
التجئ إليك لتحميني، وتقوّيني، وتستمع بقلب كبير إلى
أسراري الصغيرة، وهمومي الكبيرة..
إنك توأم فكري الذي أستطيع أن أبوح له بكل شيء..
.. دون أن يخونني، أو يكتب تقريراً عني
إلى المباحث العامة..
إنك المكان الوحيد الذي ألجأ إليه أصرخ بحرية
وأضحك بحرية، وأبكي على كتفيك بحرية..
إن الأمكنة في الوطن العربي موضوعة تحت الرقابة
وواقعة في دائرة التنصت، والنساء بشكل خاص هن
الأكثر تعرضاً للمراقبة..
ألجأ إليك لأقول ما لا أستطيع أن أقوله أمام مجتمع
لا يعترف بسلطة غير سلطة الذكور، أو بأفكار غير
أفكار الذكور..
فأنا امرأة تكتب في الخط الأول للمواجهة..
تقاتل بشجاعة وببسالة فدائي، وتصرّ في أحلك
اللحظات على الانتصار.. وتؤمن بأن زمن البنفسج
قادم.. قادم..
صحيح أن واقعنا العربي في منتهى البشاعة والسواد،
ولكن هل هذه الصورة نهائية وغير قابلة للتعديل
أو التجميل؟
أعتقد –يا شمس عمري القادم– أن حركة التاريخ
تعلمنا أن للحضارة مداراً، وللانحطاط مداراً.
فالنقطة التي كانت في القمة قد تصير سفحاً..
والنقطة التي كانت في السفح قد تغدو قمة..
إن عصور الانحطاط لا تكون نهائية، إلا إذا ضرب
الانحطاط إرادة الأمة بكاملها. وأنا اعتقد أن إرادة
الأمة العربية لا تزال قوية وسليمة.
فالقوى الشعبية لا تزال تتحرك،
وليست المقاومة اللبنانية لجيش الاحتلال الإسرائيلي
في الجنوب، ومقاومة الفلسطينيين في الأرض المحتلة
سوى إرهاصات الغضب الشعبي الذي يتشكل كالأنهار
تحت سطح التاريخ.
أنا مثلك -يا ولدي– أحب أن أقرأ المستقبل بعيون
البسطاء والطيبين والأطفال..
وهذا الشعب العربي العظيم هو الذي سيخرج الشمس
من جيب معطفه..
وهو الذي سيفجر الماء في صحارى العطش اليباس..
وهو الذي سيضرم النار في كتب وثقافة عصور
الانحطاط.. ويبشر بولادة العربي الجديد..
الرسالة الثانية والأربعون
أمنية..
يا التي تمنيتها بنتاً وأماً وأختاً وصديقةً..
ففي منتصف ليلة كان القمر فيها بدراً.. ونسمات شهر
أغسطس المعتقة برطوبة الإسكندرية، تعانقني بكل
حنان وكرم المصريين، لتبدد عني وجع الولادة..
استجاب الله لأُمنيتي، وكان كريماً معي، فأهداني ذات
ليلة صيف مَنْ تعوضني عن سنوات اليتم، والغربة..
ابنتي.. يا عطري الخصوصي..
الشوق يخربش بأظفاره أيامي، ويحولني إلى رماد..
فهذا الوطن المتدثر بشال أزرق يلامس الأفق..
هو إدمان شعري لا أريد أن أشفى منه..
فبين سماء الكويت والثلج الفرنسي آلاف
من الأميال، ولكنها في حساب عشقي أقصر من
ضربات قلبي..
بين السابحين في شراييني.. والمتزلجين على
بياض الجليد في مجيف لحظة يكتظ فيها كل عمري..
أحلم أن أتكور في رحم وطني.. فرائحته تهاجمني في
اليقظة أو في الأحلام..
فهذه الرائحة الطيبة، المباركة التي تعب من أرض
الكويت، تمتزج فيها رائحة البحر.. بعبق القهوة المرة،
وأعواد البخور.. وزهر النوير في أول الربيع. هذه
الرائحة الكويتية النادرة الساحرة، الدافئة تخرج لي
من ثيابي حيث كنتُ.. وتناديني كما تنادي الأم أطفالها
إذا تأخروا خارج البيت..
أحلم بأن تخرج المرأة من المعتقل، وبالثقافة وحدها
يمكنها أن تسترد مفاتيح الكلام، وبالثقافة وَحَدهْا
يمكنها أن تعود من المنفى الإجباريّ الذي تعيش فيه
منذ قرون طويلة.
والوطن العربي الغارق في جهله -فنسبة الأمية بين
الرجال 45% ونسبة الأمية بين النساء 65%- في حاجة
لدخول النساء معترك الحياة لتحقيق التوازن في
المجتمع العربي اللا متوازن.
بحاجة إلى نساء يصححن المعادلة المغلوطة، التي
تعطـي للرجـل جميـع الامتيـازات، وتمكنه مـن مراكز
القوى، وتترك للمرأة فتات الفتات..
لا أحد يحررّ أحداً، فالحرية من صنع الأحرار وحدهم..
ولم يحدث في التاريخ أن شعباً تحرر بالمراسلة
أو أن امرأة تحررت بالتوسلات وتقبيل الوجنات،
وذرف الدموع..
إن وطننا العربي محاصر بمليون مشكلة ومشكلة، لكن
الموضوع الأساسي الذي تتوقف عليه حركة التاريخ،
ويطغى على أخبار الفقر، وأخبار الأمن، وأخبار
الاقتصاد، وانخفاض أسعار النفط، وأخطار الحرب
النووية الثالثة، هو المرأة..
هل نسمح لها أن تمارس حقَّهـا الانتخابـي، كأي كائـن حر
التفكير والإرادة، أم نتركها ألف سنة أخرى واقفـة تحت
الريح والمطر حتى تموت برداً وجوعاً وعطشاً؟
لماذا نشغل بالنا بمثل هذه الهوامش التي أسقطها
العالم من حسابه؟ لماذا لا نقفل ملف المرأة نهائياً؟
ففي هذا العصر الذي يمر في فترة تحولات عميقة في
ميادين التنمية والتخطيط والتصنيع، لا بد من
الاستفادة من كل طاقات المجتمع فليس في ميدان
الفكر والعلم ذكر أو أنثى، إنما هناك إنسان واحد
يؤسس مجتمع العقل، والعدل والمساواة.
لمـاذا نقبـل أن تجلس المرأة معنـا في حجرة الطعام،
وحجرة الاستقبال، وتتقاسم معنا الفراش، والمرض،
والشيخوخة، ونرفض أن نعطيها مقعداً في قطار الدولة؟
لماذا نتغزل بعيونها السود طوال الليل، حتى إذا طلع
الفجر شربنا فنجان قهوتنا بسرعة.. وقرأنا جريدتنا
بسرعة.. ونسينا العيون.. وصاحبة العيون؟
لماذا نكتب لها رسائل العشق قبل الزواج، حتى إذا
تزوجتنا، وضعناها في الإقامة الجبرية، وتصرفنا معها
كما كان يتصرف الاستعمار مع شعوب أفريقيا..
وإذا ناقشنا المسألة لغوياً، وجدنا جميع مفردات الحكم
مؤنثة.. فالحكومة أنثى والسلطة أنثى.. والإدارة
أنثـى.. والديمقراطيـة أنثـى.. في حين أن جميع صفات
القمع، والإرهاب، والاستبداد، والشنق، والذبح، والقتل،
والسحل.. هي صفات مذكرة..
لا يليق بنا أن نحاكم كل يوم أمهاتنا، وشقيقاتنا،
وبناتنا وزوجاتنا بتهمة القصور العقلي..
وإذا كن أميات.. أو منطفئات الذهن.. فلأن الرجل
الذي خرجن من تحت عباءته أُمّي، ومنطفئ الذهن..
هذا هو الواقع، وهو واقع مشلول وكسيح، لأنه يمشي
على قدم واحدة..
فالمرأة مطلوب منها أن تكون ولوداً.. وخصبة.. وكثيرة
النسل.. إنهم يفضلونها ساخنة، ولا يريدونها باحثة، أو
عالمة، أو مفكرة. يفضلونها صامتة، ولا يريدونها
مجادلة.. أو مناظرة.. أو متحدثة.
يريدونها خرساء.. وصماء.. وبكماء.. لأن المرأة
المعاقة هي مثلهم الأعلى. يريدونها زوجة بالأجرة..
أو جارية بالأجرة.. لأنهم لا يقبلون المشاركة في كل
شيء.. ويرفضون قسمة الحياة على اثنين..
يريدونها بلا عقل ولا ذكاء لأن عقل المرأة هو ضد
الأمن القومي.. ضد الأمن الاقتصادي.. وضد الأمن
الثقافي.. وضد الأمن الاجتماعي..
المـرأة هـي جدول المياه المهدور.. والطاقة الممنوعة
من الطيران في أي اتجاه ومنجم الذهب الذي لا يزال
مخبوءاً في أحشاء الأرض.. فمتى تفتح نافذة للواتي
يفتقدن الضوء، ويفتقدن الحرية؟
الرسالة الثالثة والأربعون
ولدي.. وصديقي النبيل.. مبارك
جاءني صوتك مبللاً بالحنان..
وعندما يجيء صوتك أشعر بالأمان..
وكأنني أتوسد صدر أبي..
وعندما يغيب صوتك أشعر باليتم والقلق..
أعرف أن الغربة موحشة..
وأعرف أنك وحيد إلا من صديقك الكتاب..
وأنت الذي تعودت على الناس.. كان الله معك..
انهلْ من نهر العلم والثقافة ما استطعت..
فالاستثمارات العلمية والثقافية هي أكثر الاستثمارات
مردوداً..
والرهان على استثمار العقل هو رهان رابح، لأنه رهان
على المستقبل..
ولدي..
ورائي الخليج بكل مشاكله وأمامي أنت بكل بساتينك
المملوءة بالحنان..
وعيناك المكتظتان بالعنفوان والرجولة..
واسمك الذي تشرق منه شمس اسم جدك العظيم
–مبارك الكبير– ونور أخيك مبارك الذي
ودعني ذات صباح..
ورائي على الضفة الأخرى سجن كبير اسمه العراق..
وشعب كبير محكوم عليه بالإعدام من غير ذنب..
وأمامي نهر من البنفسج، وزهور التفاؤل..
ورائي القلق والشك والخوف.. وأمامي السلام
والطمأنينة واليقين..
أعتبرك أنت وأخاك محمد يا ولدي، الضمير النقي
النظيف الذي ألجأ إليه كلما ضربتني عواصف الحزن
ورياح القلق..
فأنتما جزيرتي الآمنة..
يتبدد حزني عندما أكون معكما أو عندما أكتب
إليكما.. فكل منكما مؤمن مثلي بأنه ليست هناك
عبثية في الكتابة، فالكتابة ليست أداة طرب..
وإنما هي كتيبة مسلحة لمحاربة التخلف،
والأفيون الفكري..
فليست هناك كتابة تقف في الوسط.. فإما أن يكون
الكاتب مع الناس، أو أن يكون ضدهم.. فلا قيمة للكتابة
إذا أصبحت عضواً في مجموعة الحياد الإيجابي..
أوصيكما بالإيمان بالله، والالتزام بالقيم والمثل العليا،
وحسن الانتماء الوطني والقومي، ومحبة الإنسان من أي
لون أو أي جنس وكونا مع الله يكن الله معكما..
تذكرت “يا ولدي” سؤالاً طرحه المرحوم الدكتور زكي
نجيب محمود منذ سنوات..
عن: ماذا يجري في العقل العربي؟.. هل هي أزمة في
عقل الحاكم، أم في عقل المحكوم؟
والسؤال ما زال مطروحاً..
أعتقد أن الأزمة موجودة في العقلين معاً..
فهما عقلان متناقضان في البيئة والوسيلة والغاية ولكل
منهمـا خططه وإستراتيجيته..
فعقل الحاكم، عقل براغماتي، ميكافيلي، نرجسي..
وعقل المحكوم، عقل خائف، ومستلب، ومعطل التفكير،
وواقع كل لحظة في شبكة إعلامية تحاول أن تغسل
دماغه.. وتحوله إلى حيوان ناطق..
في وطننا العربي هناك عقل واحد لا عقلان..
واحد يفكر.. والثاني فاقد الأهلية، وممنوع من
التفكير والكلام..
إن المواطن العربي بعد سنين من الضجيج، والثرثرة
السياسية، لم يعد يسمع شيئاً، ولم يعد يصدق شيئاً..
فما المطلوب من إنسان ممزق، وضائع، ومنكسر
الأحلام أن يفعل؟
إن بقاء الجماهير العربية في حالة الخوف، والشك،
والاستلاب، لا يخدم مصلحة أحد، ولا أستثني بعض
الحكام أنفسهم. لأن حاكماً بلا شعب كفارس بلا
حصان.. فمتى يدرك بعض الحكام هذه المأساة؟
إن المواطن مظلوم، فالوطن بالنسبة إليه موجود
بالكتب والأناشيد المدرسية..
فالأزمة، هي أزمة حاكم لا يعرف كيف يحتفظ بكرسيه..
أزمة عقل يريد أن يسيطر على ما في الأرض، وأن يؤمم
مرافق العقل..
أزمة عقل حاكم لا يجد وسيلة يقابل فيها
ثورات ملتزمة بالعقل والبصيرة والمنطق..
خوفي أن يفقد المواطن العربي الإيمان باللسان
العربي.. وباللغة العربية.
الرسالة الرابعة والأربعون
شيماء..
ابنتي.. يا خلاصة كل العصور
لو لم أكن أمك لبعثت برقية إليها تتألف
من كلمتين فقط:
“أحسنت يا مبدعة..”..
والحقيقة، أنني لا أعرف، رغم كثرة المبدعين، امرأة
ولدت شمساً إلا أنا..
ولا أعرف امرأة أطلعت ياقوتاً.. وعنباً وأشجار عدل
وفكر.. وسنابل حرية إلا أنا..
فهل كنت أعرف، حين وضعتك، أنني لم ألد بنتاً
كملايين البنات.. وإنما ولدت (قضية) بكل ما تحمل
القضية من وهج النبوءة، ونار التحولات؟
فهل كنت أعرف أنني أؤرخ لتاريخ المطر..
وتاريخ الورد.. وتاريخ الحضارات التي سوف تأتي
وتاريخ الشعر الذي سوف يُكتب..
فكل عام وأنت مضيئة كالمنارات..
وعادلة كالمطر،
ومتحدّية كالعاصفة،
وجميلة كنشيد الأناشيد..
كل عام وأنا أتغطى بشراشف حنانك..
واختبئ كالعصافير في سواد عينيك..
الرسالة الخامسة والأربعون
يا حفيدي الغالي،
أهلا بك معنا، يا أحلى قادمٍ، ويا أغلى الأسماءْ
لكَ تتجدَّدُ الحياةُ، ويستمرُّ النهرُ الكبيرُ بالتدَّفق، وتزداد
شجرة مبارك الكبير غُصْناً جديداً، وزهرةً طيبةَ العبير.
لقد أطلقْنا عليك اسم جدّك العظيم عبد الله المبارك
الذي ملأَ تاريخَ الكويت نُبلاً، وشجاعةً، وفروسيةً،
ورفع اسْمها عالياً في كلِّ مكان.
أنت الآن في المهْد، ولا تعرفُ من أنتَ؟..
وإلى أيَّةِ شجرة كريمة تنتمي؟ ومن هو جدُّك
عبدالله المبارك؟..
لكنّك حين يشتدُّ عودُك، وتتسّعُ ثقافتُك،
وتقرأ تاريخ الكويت،
ستكون فخوراً بأن تحمل اسم الرجل الذي ترك
بصَماتِهِ على تُراب الكويت، وأعطاها مجدَها، وعزَّتها،
واستقرارها الوطني.
ولأنَّك تحملُ هذا الاسم الكبير، فأنت مُطالَبٌ في
المستقبل بأن تُحافظ على هذا الميراث الغنيّ، وتضيفَ
إلى بريقهِ، بريق علْمِكَ، وثقافتِكَ، وطُمُوحِكَ الشخصي.
وبعدُ.. فقد كُنَّا ننتظر إطلالتَكَ منذُ زمن طويل،
وها أنت قد وصلتَ لتحمل الرايةَ، وتضيء القناديل في
البيت المُباركيّ..
فأهلاً وسهلاً بك، في عيوننا وفوق أهدابنا.
وألف مبروكٍ لأبَويْكَ الحبيبين اللّذين قدّما لنا أجمل
هديةٍ كنا نحلم بها.
أدعو الله أن يفرش دربك بالفرح، والأزهار والرياحين
وأن يجعلك من السعداء والناجحين، وطويلي الأعمار.