السمكةُ تعود إلى بحرِها..
1
ها أنذا أمام بحرِ بيروت
لأستعيدَ صَداقتي مع الطيورِ والأسماكْ
وحواري مع اللونِ الأزرقِ..
بعدما أرهقَني العطشْ..
ودوّختني المسافاتْ..
وحاصرني الزمنُ اليابسْ
2
ها أنذا أقفزُ كسمكة
على شاطئ الأوزاعي
وأنامُ على الرملِ الدافئ
بعد مئةِ عامٍ من النومِ على سريرِ الأحزان
3
ها أنذا أكسرُ جدران ذاكرتي
وأدخلُ المدينة التي علّمتني
كيف أقرأُ كتابَ الحريَّة
وكيف أكتشفُ فضاء أحلامي
وأبعادَ أنوثتي؟
4
ليس صحيحاً..
أن بيروت يحدُّها البحرُ من الشرق
والجبالُ من الغرب
إنها مدينةٌ لا نهايات لها..
تماماً كالحلمِ.. والشِّعر.. والحريَّة
5
ليسَ صحيحاً..
أن بيروت هي إحدى قصائدِ البحرِ الأبيضِ المتوسط
بيروت هي الشَّعرُ كلّه..
6
بيروت كحّلتني
وعطّرتني
وجمّلتني
وألبستني سواراً من الذهب..
لم أخلعْهُ من معصمي..
منذُ أكثر من ثلاثينَ عاماً..
7
بيروت زرعتْ في شعري وردة..
لم تزل أوراقها مبلّلة
منذُ أكثر من ثلاثين عاماً..
8
بيروت أعطتني مفاتيح الشِّعر..
وقنديل الثّقافة..
ولا يزالُ القنديِلُ يتوهّجُ في غرفتي..
منذُ أكثر من ثلاثين عاماً..
9
في الستينات..
كنتُ كنخلةٍ صحراويَّةٍ تنتظرُ المطر..
كزهرةِ أقحوان..
تبحثُ عن إناءٍ يحتويها..
وفي بيروت وجدتُ الإناء..
واغتسلتُ بمطرِ الحريَّة..
10
بعد عامٍ على وصولي إلى موطنِ القمر
بدأتُ أكتبُ شعراً
على دفترِ القمر
وبدأتُ أتعلمُ لغة العصافيرِ في (زحلة)،
ولغةَ الصنوبرِ في (ضهور الشوير)
ولغةَ الثلجِ في جبلِ (صنين)
ولغةَ البحرِ في صوتِ فيروز..
11
وفي مدينةِ (عاليه)..
وبين كرومِ العنبِ وأشجارِ الكرز
وأزهار الدفلى..
وأنجبتُ أحلى قصائدي (مبارك)
وهكذا أعطاني لبنان شهادتينِ أفتخرُ بهما..
شهادةَ الحياة..
وشهادةَ الأمومة..
12
علّمني بيتُنا في (اليرزة)
كيف أصادقُ الشجر
وكيف أغتسلُ بموسيقى المطر
وكيف أتذوّقُ سمفونيّةَ الصراصير الليليّة..
13
لم تستطعِ الحربُ أن تنتصرَ على لبنان
لم تستطعْ أن تنتصرَ على الحلمِ اللبناني..
والتوهُّجِ اللبنانيّ
والتفوُّقِ اللبنانيّ..
لم تستطعْ أن تقصَّ أجنحةَ طموحِه..
أو توقفَ صهيلَهُ الجميل..
أو تغتالَ كبرياءَ أرزِه.. وروعةَ مواويلِه..
14
لم تستطعِ الحرب..
أن تُسكتَ صوتَ جبران..
أو صوتَ اليأس أبي شبكة..
أو صوت الأخطل الصغير..
ربما استطاعتِ الحربُ أن تحرقَ الحجر..
والإسمنت
وأن تطفئَ قناديل الشوارع
ولكنّها بالتأكيدِ لم تستطعْ أن تطفئَ حضارةَ
صيدون وصور..
أو تمنعَ قدموسَ من الإبحارِ إلى المستحيل..
15
سبعةَ عشرَ عاماً.. مرّت على حريقِ بيروت..
ولا تزالُ أكبرَ من موتها..
وأكبر ممّن دمّروها.. وأحرقوها..
سبعةَ عشرَ عاماً.. تحت ألسِنة اللّهيب..
ولا تزالُ تتوهّجُ تحتَ الرماد..
كسبيكةِ الذَّهب..