الدخولُ إلى نقابة الصحفيين في القاهرة، يُشابهُ الدخولَ إلى جامعةٍ تُعلّمُ تلاميذَها مادةً واحدةً فقط هي الحرّية.
هذه المادةُ الواحدةُ، تُلغي كلَّ الموادِ الأخرى فبغير الحرية يتحوّلُ الإنسانُ إلى نصفِ إنسانٍ.. أو إلى ربعِ إنسانٍ.. أو إلى مشروعِ إنسان.
ولأنني أبحث عن الحرية ككاتبة وشاعرة ومواطنة، فإنني أجدُ في نقابة الصحافيين المصريين، الأرض المثاليّة التي أستطيعُ أن أقول عليها ما أشاء.. وأصرُخَ كما أشاء.
أيُّها الأصدقاء
إنني أقصدُ القاهرةَ، لأقول فيها كلاماً لا أستطيع أن أقوُلَهُ في غير القاهرة.
ففي هذا العصر البوليسي الذي أصبحَ فيه الحوارُ العربيُّ – العربيُّ، محكوماً بالقنابلِ والمسدَّساتْ والصواريخِ بعيدةِ المدى، تبحثُ الكلِمةُ العربية عن ملجأٍ أمينْ، لا يصل إليه رَصاصُ المتقاتلين.. ولا تُغطّيهِ الأسلاكُ الشائكة، وأكياس الرمل.
في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رماداً.. وكلماتنا رماداً، وأمانينا رماداً.. نلتجئُ إلى ذراعيْ مصر التي كلما أردنا أن نكتب، كتبنا على سمائها المفتوحة الزرقاء، وكلما أردنا أن نستحم بماء الحريةْ قصدنا نيلها العظيم، وكلما أردنا أن نبكي، بكينا على صدرها الرحيم..
أيّها الأصدقاء:
كم أنا سعيدةٌ، وملأى بالعنفوان، لأني في بيتِ الصحافة، بيتُ الصحافةِ هو بيتي، وقضيتُها هي قضيتي.
وأنا مدينةٌ للصحافة المصرية بشكل خاص لأنها علمتني كثيراً، وكرمتني كثيراً، وكانت دائماً رفيقةَ كلماتي، ورفيقة حريتي.
الصحافةُ هي السلطةُ الرابعةُ في عالمنا، بل هي السلطة الأكثر ثباتاً، والأرسخ جذوراً من كلِّ السُلطات وفي حين تتساقط ديكتاتوريات، وتترنح أيديولوجيات، وتتناثر أنظمة ٌ بوليسية كأوراق الخريف.. تظلُّ الصحافةُ سيفاً شجاعاً يقودُ معاركَ تحرير الشعوب في كل أرجاءِ العالم.
إن الصحافة التي أعنيها، ليست الصحافة الخائفة، ولا الصحافة المتسولة على أبوابِ الأنظمة ولا الصحافةَ الهاربة من الجندية، ولا صحافة تزوير المواقف، ولا صحافة العَرضِ والطلب، ولا الصحافةَ التي تغّيرُ مواقفها حسبَ نشرةِ صرف العُمُلات.. ولا الصحافة التي تغير ولاءَها.
مثل هذه الصحافة، التابعة، والذيلية، والجالسة تحت أقدام من يملكون السلطة، أو يملكون رأس المال لا أناقشها أساساً.
وإنما أتحدثُ عن صحافةٍ أخرى، بقيت رغم الضغوط المادية والاقتصادية والسياسية محتفظة بنقائها وشرفها وحريتها.. إنني أحمل أحزاني إلى مصر لأنها أكثر البلاد فهماً لطبيعة الحزن.. وأحمل إليها مدامعي لأنها تعرف من أين تأتي الدموع.. وأرفع فوق أهراماتها بيارق حريتي لأنها معلمة الحرية.. إنني أقصد مصر الأم لأشكو إليها عقوق بعض الأخوة الذين أشعلوا النار في منزل الأبوة وقطعوا شجرة العائلة..
أيها الأصدقاء أنا شاعرة عربية من الكويت سُرق مني وطني خلال خمس دقائق ببحره وشواطئه وأشجار نخيله ورجاله ونسائه وأطفاله وعنوانه ورقم صندوقه البريدي.
خمس دقائق فقط.. لم يتركوا نخلة في بساتين الكويت إلا قطعوها، ولم يتركوا سمكة في بحر الكويت إلا أكلوها.. ولم يتركوا نجمة في سماء الكويت.. إلا واعتقلوها.. ولم يتركوا مطبعة أو جريدة.. أو مكتبة.. إلا ونسفوها.
خمس دقائق فقط.. حملَ النازيون الجُدد الكويت في حقيبة على ظهورهم ولم ينسوا أن يضعوا الشعب الكويتيَّ كله في داخل الحقيبة.
في الثاني من شهر أغسطس 1990، اكتشفنا أن مافيات القومية العربية سرقت الكويت، ومستشفيات الكويت، وممرضات الكويت، وأنابيب الأوكسجين.. وغُرفَ العمليات.. وزجاجات المَصْل.. ووضعتها في سيارات شحن.. ونقلتها إلى بغداد.
أيّها الأصدقاء:
إنني شاعرة “كويتية” وحدوية، نذرتْ دمَها، وقلمها، وماَلها، من أجل قيامة وطنٍ عربيٍ جديد ينهضُ على أساس العقل، والمعرفة، والعدالة والديمقراطية. ولكنني بكلِّ إصرارٍ، أرفض الخلط بين القومية العربية واللصوصّية.. وبين المثل الأعلى والغوغائية.. وبين طهارة العقيدة ودعارة التطبيق.
لقد سقطت النازية في كل أنحاء العالم، وتدحرجت الديكتاتوريات تحت أقدام الشعوب، وانتصر الإنسان على جلاديه وقاتليه، وهدم أسوار سجونه.
وإذا كان جدار برلين قد تحطم بعد خمسة وأربعين عاماً، بضربات الشعبِ الألماني. فإن الشعب الكويتيَّ سوف يحطم جدارهُ أيضاً، وإذا كان الشعب الروماني قد صفى حسابه مع تشاوشيسكو، والشعب السوفييتي قد نبش قبر ستالين فهذا دليلٌ على أن عُمرَ الطغاةِ قصير.. وأن تاريخَ الشعوب لن يُشطب بهذه السهولة.
إن محاولة شطب الكويت من التاريخ، هي محاولة مستحيلة، ومهما كان الخرابُ كبيراً والجرحُ عميقاً، والأساليبُ متوحشة فسوف يعود الكويتيون إلى الكويت، ليبنوها حجراً حجراً، ونخلةً نخلة.. وموجة موجة.. ومئذنة مئذنة.
ولن تتحولَ الكويتُ أبداً.. إلى أندلس ثانية..
شكراً لصحافة مِصر، التي حملت قضية الكويت على أهداب عينيها، ونَصَرتها، وقاتلت معها في الصفوف الأولى.
وشكراً لمصر العظيمة التي لم تترددْ في دخول معركة الحرية مع الكويت منذ أول لحظة.
إنه شكر الأحرار للأحرار.
كلمة أمسية كلية الحقوق بالشويخ
أيتها الصديقات.. أيها الأصدقاء لا أستطيع أن أصور لكم شعوري عندما أقرأ شعري تحت سقف الجامعة.
لا أستطيع أن أصور لكم فوق أي غمامة بنفسجية أسبح.
فالوقوف على منبر الجامعة كالوقوف على شرفة من شرفات القمر.
أو كالجلوس في أحضان وردة أو كالتحليق على علو 32 ألف قدم.
إنه شعور بالسمو والنقاء والارتفاع على سطح الأرض، ففي هذا العصر المطحون تحت عجلات المادة، والاحتكار، والأنانية، والمرهق بمشاكله الغذائية والاجتماعية، والمتسمم بالإشعاعات النووية، والواقع تحت سلطة تجار الأسلحة.. وتجار المخدرات.
في هذا العصر الهابط جسدياً، وروحياً، وفكرياً، وثقافياً، تبقى الجامعة هي الحزام الأخضر الذي لم يصل إليه التلوث، ويبقى الشباب هم المصل الحيوي الذي يعطينا القوة والمناعة.
إن نظرة واحدة على خريطة العالم، ترينا أن هذا الكوكب بدأ بالانتحار فثقب الأوزون يتسع، ومساحة الخضرة تضيق، ومساحة الجفاف تزيد.. والبحر يتراجع على حساب اليابسة، والغابات تتصحر، والإنسان في أفريقيا يجوع، والقلب الإنساني يتيبس، والعلاقات الإنسانية تنكمش، والخيوط العائلية تنقطع، فالإنسان أصبح حيواناً حزيناً، ووحيداً، ومنفياً.
أمام كل هذه الأخطار التي تهدد الإنسان، في حياته وفي مصيره، لا يبقى أمام الإنسان سوى أن يعود إلى الشعر، إلى هذا الينبوع الروحي العظيم الذي يعيد إلى الإنسان طفولته، ونقاءه وأصالته.
ففي هذا العالم المتعب بمشاكله، ونزعاته، وأمراضه، وحروبه يظل الشعر هو خشبة الخلاص التي تنقذ الإنسان من الضياع، والغرق، والانقراض.
إن الشعر هو طريقنا إلى الخير، والحق، والجمال، والمحبة، وهو الحل الأخير لجميع ما نعانيه من جفاف، وملوحة وإفلاس.
أيتها الصديقات.. أيها الأصدقاء:
معكم يشعر الإنسان بالعافية والامتلاء، ويشعر أنه خارج منطقة التلوث عندما يأتي الشعر إليكم يشعر برعشة كبرياء.. ويشعر بأنه يتنفس ملء رئتيه، ويشعر بأنه يمشي على أرض حضارية.
أهمية الجامعة أن الشاعر يتكلم فيها مع المستقبل، يتكلم مع الذي سوف يأتي.. ومع العقل الذي سوف يتكون.
الشاعر العربي القديم مولع بجمع الحجارة، والبكاء على الأطلال..
أما الشاعر العربي الحديث فقد صارت لديه رؤية مستقبلية، وعينان تريان بالخيال والحدس، كما كانت تفعل زرقاء اليمامة.
ويسعدني أن تكون جامعة الكويت، صديقة للحداثة الشعرية، أي شريكة لكل ما يحمله المستقبل من إضاءات، وإضافات، واجتهادات شعرية.
إن الاجتهاد في كل حقل من حقول الأدب، شعرا كان أم قصة أم رواية، أم مسحاً، هو شيء مطلوب وحتمي، وإلا جفت ينابيع الإبداع، وذبلت أزاهير الخلق والتجديد، وتوقف نهر الحياة من الجريان.
يجب ألا نخاف أبدا مما يحمله الربيع من أعشاب جديدة، وأمطار جديدة.. وعصافير جديدة.
فالأرض لا تتوقف أبدا عن طرح ملايين الأزهار.. وليس هناك زهرة تشبه زهرة أخرى…
وإذا كانت الأزهار لا تتشابه، فلماذا نطلب من القصائد أن تتشابه ؟.
وإذا كانت رائحة الورود تختلف عن رائحة البنفسج، فلماذا نريد من المتنبي أن يكون صورة طبق الأصل عن أبي نواس.. ولماذا نطلب من طه حسين أن يكون صورة طبق الأصل عن الجاحظ، أو ابن المقفع.
إن تعددية الأصوات مطلوبة في كل زمان ومكان، وإلا كتب جميع شعراء العالم قصيدة واحدة.
إن الكلام عن الحداثة الشعرية طويل، ولكني أردت أن أقوله في جامعة الكويت، لأنني مؤمنة أن الجامعة هي الهيئة الثقافية المثالية التي يمكنها أن تنقل الفكر في حالة الثبات إلى حالة الحركة، وهي التي يمكنها أن تتقبل بفكر مفتوح، حركة الحداثة، أو صدمة الحداثة حسب تعبير الشاعر أدونيس.
جامعة الكويت، هي التي تستطيع أن تستوعب شرارات الإبداع وحرائق المبدعين.
وهي تستطيع أن تساعد على التقاط الكشوفات الشعرية الباهرة، كما ساعدنا في الماضي صيادي اللؤلؤ على الغوص من أجل التقاط النادر والثمين من جواهر الخليج.
إن الجامعة هي حقل الاختبار لكل بذور العقل، والمعرفة، والابتكار ولسوف تبقى دائما بانتظار فصائل جديدة من الورد لم يعرفها تراب الكويت من قبل.
أيتها الصديقات، أيها الأصدقاء:
إن الحوار معكم يفتح شهيتي، ويحرض دورتي الدموية، ويجدد شبابي، ففي هذا المناخ الصحي، والمثقف والحضاري، اشعر أنني أتنفس جيداً.
أشعر أنني أطير كعصفورة في سماوات بلادي.
وماذا تريد العصافير أكثر من أن تلتقط حبة قمح من راحاتكم الممدودة.
وماذا تريد العصافير أكثر من تحط على أكتفاكم متى تشاء وتطير متى تشاء،
فشكرا لكم على قمحكم الكويت الطيب
وشكرا على حلاوة رطبكم..
وشكراً على حلاوة استقبالكم..
يا أصدقائي ويا أصدقاء الشعر