أغمض عيني..
أغمض عيني..
ها أنذا على شاطئ الرملة البيضاء قبل ثلاثين عاماً، أقف مع زوجي وصديقي الشيخ عبد الله المبارك الصباح. كانت أيام الحب الكبير في وطن الحب الكبير.
ومن اليوم الأول إلى اليوم الأخير سيظل لبنـان بلـد الحب والمحبيـن، الذي علمني لغة الأشجار وزقزقة العصافيـر. فـي هـذه الأرض عرفت للماء لـوناً غير كل الألوان، وللسماء زرقة غير زرقتها في كل سماء وللثقافة عطراً إنسانياً تكون في أعماقي وفتح وجداني المتعطش للمعرفة على آفاقها الواسعة، فكانت النافذة التي عبرها رأيت العالم يتكون من جديد أمام عيني وتتشكل ملامحه الرائعة.
ملعونة هي الحرب، فكيف حين تكون اغتيالاً بخنجر الشقيق، هكذا حرمت الحرب لبنان من اللبنانيين، وحرمت اللبنانيين والعرب والعالم من لبنان السنين الطوال. وكما كان حصاد حربكم اقتتالاً بغيضاً لم يثمر غير الشوك والأحزان، هكذا كانت الغزوة التي تعرضنا لها، مسمار الموت الذي يولد الموت وحده فيحصد زارعه يباباً في يباب وخراباً للنفس وللقيم وللتاريخ مروعاً كان ومحزناً حتى الموت.
ولكن كما خرج الفينيق من رماده خرجتم إلى الحياة تصنعون الحياة. هكذا نحن نخرج من محاولة الوأد إلى الولادة من جديد حاملين جراحنا وذكرياتنا الدامية. وإذا كانت الكويت قد بدأت طريق العودة إلى الأفضل فإن لبنان، القوي الصابر الجميل النبيل لا يزال يواجه في جنوبه وفي بقاعه عصابة الشر والعدوان، بشجاعة يحق لنا أن نقول إنها جنوبية وبروح الثورة الجنوبية وبعطاء الدم الجنوبي. لقد انزرعت في الذاكرة مئات الأسماء وغابت عنها مئات الأسماء، ولكن كيف يمكن أن تغيب عن ذاكرة الزمن وذاكرتي صورة تلك الصبية الجنوبية التي اختارت الموت طريقاً للحياة، عنيت سناء المحيدلي، بنت الجنوب التي رفعت راية الموت وأقبلت عليها تشق فوح دمها فتعطر به تاريخ الأمة وتملأ رئة الزمان برائحة الرمان.
.. قال شوقي: كلنا في الهم شرق..
وأنا أقول: نحن ولبنان في الهم الكبير واحد.
ولكم أسراكم في معسكرات التعذيب، إسرائيلية هي لا ألمانية، ولنا أسرانا.. يا ويلي من المفارقة الذباحة، يا ويلنا من هذا اليوم الذي يكون فيه العربي أسيراً عند العربي، شقيقاً هو كان، فمتى تعود للشقيق عروبته ويعود لأسراكم ولنا أسرانا.
يحزنني حتى العظم أن تعقد المقارنة، ولكن بالله هل نلوم القتيل إذا اشتكى من طعنة القاتل؟
لم نكن السعاة إلى العداوة.
ولسنا السعاة إلى الحروب والدمار.
هكذا نحن مع كل طرف في الأرض إلا الذي تميل الأرض، لذلك أعلن من لبنان أنني مع لبنان لا حتى الموت ولكن حتى الحياة، والمجد في الحياة والنصر في الحياة.
وإذا كانت هذه اللحظة قد سجلت نقصاناً في عدد نبات الجنوب، فليسجل الجنوب الآن ولادة بنت جنوبية عمرها خمسون عاماً واسمها سعاد الصباح.
وأستأذنك يا جنوب إذ أسافر عائدة إلى الشعر، لعلنا بالشعر وبالثقافة نبني جسر المحبة والعطاء الذي تخربه لنا السياسات وتحاول نسف جذوره. أعود إلى الشعر لأعود إلى لبنان الذي أحببت وأحب، والذي من سمائه طلعت لي نجمة الشعر تسألني بوحاً بالحب. إلى هذه السماء يحملني بساط ريح الشعر في سمائه الأنقى، وتأخذني من يدي زنبقة حسبت أنني أقطفها، فيا للظلم، قطفتني هي وأعطتني لوزاً من جزين وزيتوناً من الكورة ودراقاً من بكفيّا وعنباً من فلوغا وكبرياء من ضهور الشوير.