دورة البابطين السنوية 2018
سعاد محمد الصباح
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأحباء.. الأحباء
يا حمائم الأدب، وأزاهير الشعر، ويا نبض الكلمة..
.. ويا عبق الأيام البعيدة التي أراها تتلألأ في مشاعركم الجميلة النبيلة..
أراني بينكم الآن طفلة نهضت في قلبها الأحلام.. فشقت طريق الإنجاز، وخاضت في بحار العلم والمعرفة والنضال.. ثم عادت تفخر بكل إنجازٍ، وبكل جرح.. فجروح المحاربين والفاتحين هي جزء من بطولاتهم.
جئت إليكم لأحكي لكم شيئاً من سيرة مواطنة كويتية عربية اسمها “سعاد محمد الصباح”.. فلها حكاية تستحق أن تروى منذ الضحكة الأولى حتى الدمعةِ الأخيرة، ومن أول صرخة بحثت فيها عن قطرة حليب إلى آخر صرخة طالبت فيها بماء الحرية من مجتمعاتِ الملح.
هي امرأة تشكلت طفولتها في ملاعب الشمس والرمل والماء.. بين “فرجان” الكويتِ العتيقةِ العريقة.. عندما كانت تبحث عن لؤلؤة بلون الحلم لتتعلمَ في مدرسة الأسماك أبجدية الإبحار، وتقرأَ أول دروسها في ثقافة الأرض.
كانت سعاد ترفض أن توضع كقارورة عطر فوق الرف، أو شجيرة زينة في ركن بيتٍ ظليل.. لأنها نشأت بين يدي والد يؤمن بعقل الأنثى.. ثم تسلمها من يده زوجٌ يؤمن بقلب الأنثى.. وكان كلاهما يعطي للمعرفة قدرَها..
..
هل تصدقون أنها كانت أربعة أشياء معاً..
كانت: طفلة، وزوجة، وأمّاً، وطالبة معاً.. لأنها آمنت بأركان النجاح الأربعة: (الإيمانُ بالله، والطموحُ، والمثابرةُ، والصبر).
كانت من أوليات من صعدن أسوار العالم الآخر البعيد..
سافرت إلى الخارج يدها بيد صديقها وحبيبها.. زوجها الرائع الشيخ عبدالله المبارك الصباح..
كان هو الجبل الذي استندت عليه كامرأة من عائلة حاكمة منتمية إلى جذور قبلية.. كان السند والملجأ في أوطان ترفض وجود المرأة.. تخنق صوتها وترجمها بالحجارة.. وأمام كل هجوم عنيف كان يواسيها ويشد من أزرها ويهديها كلمات القوة والصلابة: أنتِ أرفع مما يقولون.. أنتِ أقوى مما يحاولون.
كانت العواصف عنيفة..
وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
حملتها سفينة الحياة في بدايات الستينيات من الكويت إلى بيروت، لتطل من الشرفة اللبنانية على الثقافة والفكر الحر.
ولم يكن دربها مفروشاً بالورود..
ولم تكمل العشرين من عمرها عندما انطلقت إلى أمّ الدنيا لتحصل من هناك على شهادة البكالوريوس من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعةِ القاهرة..
وهناك عاشت في ذروة المد القومي.. ووقفت في الخطوط الأمامية في حرب 1967 تداوي الجرحى.. وتعالج الألم بالأمل، وتقتلُ الوجعَ بالطموح..
ولم يقف قطار حلمها.. بل إن كل محطّةِ نهايةٍ هي محطةُ بدايةٍ جديدةٍ.. ومن هناك كانت رحلة استكمال الدراسات العليا إلى كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، ثم إلى جامعة ساري في بريطانيا حيث الشابة الجادة الطموحة تسابق الزمن وهي تحمل كتبها وتأكل وجبة سريعة في كافيتيريا الجامعة ثم تنطلق إلى قاعات الدرس..
ثم تعيش أجمل وأجلّ لحظاتها وهي تقضي الساعات الطوال في مكتبة الكليّة تفتح صفحات العلم، وتقلّبُ أوراق التاريخ ورقة ورقة..
تخطط لأحلامها حلماً حلماً..
تحب الفن.. فترسم لوحة..
تعشق الشعر.. فتكتب قصيدة..
تدرس الاقتصاد.. فتبحث عن آفاق تطوير اقتصاد وطنها..
تنشر رأيها في الصحافة.. تقيم أمسية.. تناقش فكرة.. وتواصل النحت على جسد الزمن.. حتى جاء يوم التتويج..
يوم كانت أول كويتية تقف على منصة المتميزين المتفوقين.. وهي تحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد..
آه يا أصدقائي.. لو أعطي كلاًّ منكم نسخةً من إحساس قلبي في ذلك اليوم..
آه.. من يعرفوا لذة الفوز يجالدوا الحياة حتى يحققوه..
..
لكن إنجازاتها لم تتوقف عند ذلك.. فبعد العلم جاء العمل.
بدأت تغرس بذور معرفتها في تربة وطنها.. عبر التخصص الاقتصادي وعبر الهواية الأدبية في فن الرسم وفن الشعر..
كانت تؤسس نفسها لتكون نخلة باسقة تحمل في جريدها قضايا بلادها وأوجاع أمتها.. وكان الإنسان هو قضيتها الأولى وشغلها الشاغل..
الإنسان في أي مكان..
تدافع عن حريته، وتطالبُ بحقه في التعليم والتفكير والتعبير والعيش بكرامة..
..
كان العالم هو وطنها.. وكانت الكويت هي نبضها.. عندما قالت: (كل دبوسٍ إذا أدمى بلادي.. هو في قلبي أنا).
..
خاضت وأعطت وتفانت في مجالات التربية والتعليم وفي أندية السياسة وبيوت الاقتصاد والثقافة في الوطن العربي وفي أوروبا وأمريكا…
كان علمها هو سلاحها..
كانت لوحتها هي فستانها..
وكانت قصيدتها هي مكياجها..
جابت العالم شرقَه وغربَه، شمالَه وجنوبَه.. ولم تكن سائحة تتفرج، بل كويتيّةً.. تتعلم وتعمل، تستلهم وتبني.. وهي في الوقت ذاته تربي الأبناء.. ولا توقفها فجيعتها بابنها البكر عن ممارسة الحياة..
وكانت للتجارب بصماتها الحلوة والمُرّة على ذاكرة الطفلة سعاد، والشابة سعاد، والأم سعاد، والدكتورة سعاد..
والمعرفة تجعل الحياة أحلى وأعلى.. وأغلى.
أما السفر.. فكان أروع قصائدها، إذ زرعها في قلب الحضارات وأنبتها في عمق التاريخ، وفتح لها باب المجد على مصراعيه..
فبالسفر يترسّخ العلم وتتألق الثقافة.. وتزداد المعرفة.
الثقافة لا تأتينا بل نحن من نذهب إليها.. علينا أن نكسر طوق الجمود وقيود الجهل.. ونمارس حقنا في الحلم..
لذلك كان السفر كتاب “سعاد” المفتوح.. وأفقها اللانهائي، فقد كسبت أجمل خبراتها من السفر، وسجلت أروع ذكرياتها في السفر، وعرفت أنبل أصدقائها في السفر..
وقفت على عادات الشعوب وتاريخ الناس المكتوب على تضاريس مدنهم وتضاريس وجوههم. كانت تسافر وفي حقيبة قلبها الكويت لؤلوة الزمن الجميلة.. وهي تغني لها: (كم كنت يا حبيبتي جميلة في زمن الأحزان).
كانت تسافر.. على جناح صقر الخليج.. الزوج والسند والحبيب والظل الظليل عبدالله المبارك..
عدت أحمل شهادة الدكتوراه لألقي محاضراتي ودروسي لطلبة الجامعة، لكني اخترت الحرية وأن يكون منبري أوسع من قاعة درس، وأن يكون ملعبي الفضاء، فقررت أن أتفرغ للكتابة والتأليف والبحث والتعبير عما يختلج بداخلي من أفكار وما يتلجلج في روحي من مشاعر، مدركة أنه لا يمكن فصل الأفكار والمشاعر.. فحقائق مثل: الحرية والعدل والانتماء للوطن والأمة تحمل في طياتها شحنة من المشاعر والعواطف. وإن المشاعر والأحاسيس والعواطف -هي الأخرى- ليست مجرد نزوات شخصية، ولكنها تعبر عن مواقف وأفكار.. فهي أنهار تصب في بعضها، وروافدها يغذي بعضها بعضاً..
لذلك مضيت في طريقين متوازيين:
الأول طريق الكتابة والبحث العلمي والنشر والبحوث والدراسات والمشاركة في المؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية.. أما الثاني فهو طريق الشعر.. ودعم العمل الثقافي والتفاعل مع الكلمة وبها.. والانحياز إليها.
كنت كما قلت تماماً في قصيدتي “للأنثى قصيدتها.. وللرجل شهوة القتل”:
أتحدَّى سارقي حرَّيّةِ الفكرِ،
ومن أفتوا بذبح الشِّعرِ حيّاً..وبذبحِ الشُّعَراء..أتحدَّى..كلَّ من يحترفُونَ السَّلبَ.. والَّنهبَ..ومن خانوا تراث الصحراءِ..أتحدّاهم بشعري..وبنثري..وصراخي..وانفجاراتِ دمائي..أتحدَّى ألف فرعونَ على الأرض،
وأنضمُّ لحزبِ الفقراء..هي صرخة انتماء إلى الكلمة بكل حرارتها وحريتها.. وتمردها على كل القيود..
.. كانت الصحافة الكويتية في تلك الفترة تمر بأزهى عصورها، وأجمل فتراتها من حيث احتشاد المثقفين واستقطاب الأقلام والانفتاح، والحرية، والتآلف، فكانت تمثل شاطئ الأمان وواحة الحرية في عالمنا العربي المختنق، وكان عليها أن تكون المدافع الأول عن حقوق الإنسان في الكويت، وحرية قراره من أي تأثير.
وقد كنت دوماً من الداعمين لحرية الكلمة وحرية العمل الصحافي، بشرط ألا تُستغل هذه الحرية لهدم المنجزاتوالمسلّمات، وأن تكون حرية النقد واعية وبنّاءة بعيداً عن الإسفاف -فقلت مراراً إن النقد ليس شتيمة مهذبة- وأن تكون الرقابة نابعة من ذات الإنسان، وتكون مصلحة الوطن والأمة هي الأساس.. والمنطلق والمحرك الرئيس للفكر..
عاهدت نفسي أن أكتب بموضوعية وشفافية وصراحة، وأن أصوغ بصدق ما أعتقده دون مواربة، وأيضاً ما يعتقده الناس الذين أكتب من أجلهم وأسعى للتواصل معهم.. حرصت أن أكون صادقة مع نفسي حتى تصل كلماتي بصدق إلى قلوب الناس.
أعطيت الصحافة.. وانعجنت في خبزها اليومي، وانصهرت في حريقها اللذيذ، ولكنها أعطتني أكثر مما أعطيتها، أمدتني الصحافة بالحب والاهتمام والرعاية.. وزودتني بالسلاح الذي أعبر فيه أدغال الكلمة ومخاطر العصابات المترصدة بكل من يعلن فكرة.. والمتربصة بكل صوت امرأة يصرخ بالحق والصدق.
بدأ اسم سعاد الصباح كشاعرة وأديبة يجد صدى لدى الجمهور.. وأصبحت مسؤولية الكلمة أكبر..
وفي الكتابة لا يمكن أن تكتب بأصابع مرتجفة.. أو تتحدث بصوت مختنق، أو تستخدم حبراً باهتاً.. الكتابة شجاعة وعمل انقلابي. الحرية هي مطلب الكاتب الأول.. أي أن يكون ملعبه العالم كله، وحدوده الشمس، والإنسانية على اتساعها هي قضيته الكبرى.. ومع عصر الأقمار الاصطناعية سقطت كل “التابوهات” وقرارات المنع وفرماناته، وأصبح رقيب المطبوعات عاطلاً عن العمل، وعليه أن يذهب إلى بيته، لأن كل محاولة لرسم دوائر حول فكر الكاتب نوع من الحصار، فلا يمكننا التعامل مع الكاتب كما نتعامل مع عالم الحشرات أو عالم النباتات، فالعالم محدود في اختصاصه، في حين إن اختصاص الكاتب هو عناق الكون..
وأنا كامرأة عندما أكتب، أجد نفسي شئت أم أبيت مزروعة في ضمير الزمن الذي أعيشه، وملتزمة التزاماً داخلياً بالدفاع عن قضايا الإنسان حيث كان.. لذلك أرفض الوصاية على الفكر وعلى الكلمة، فلنفتح النوافذ والأبواب لجميع الكتب والمطبوعات، وليأخذ القارئ منها ما يشاء.. فالإنسان الحر قادر بعلمه وبعقله وبوعيه على اختيار الأفضل، والعقل المحصّن بالعلم والوعي والحرية والاتزان قادر على فرز الغث من السمين، عندئذ تذبل الثمار السامة وتتساقط دون رقيب.
في هذا الوقت..
الكتابة في الصحافة اليومية هي مواجهة مباشرة مع القارئ بكل طبقاته، لكن الإيغال فيها استنزاف لفكر الأديب..
وكان من المهم أن أعرض أفكاري بعناية، فليست الكتابة من أجل الحضور فقط.. الكتابة نزف حقيقي لمشاعر.. تسكبها من القلب على الورق مباشرة..
إن الجمهور غالباً كالطفل يتأثر بما حوله من وسائل إعلام.. وصحافة وتلفزيون، فإذا تركناه تحت رحمة الديماغوجية والغوغائية فأخشى أن يصبح الطفل قاطع طريق!
من هذا المنطلق استشعرت مسؤولياتي.. وحددت أهدافي، وبدأت أكتب، وقبل أن أخط سطراً.. لا بد أن أقرأ كثيراً.. ولن تخيفني صرخاتٌ تحذرني من خطر ركوب أمواج الحبر.. والسباحة في فضاء الورق:
يقولونَ:إنَّ الكتابةَ إثمٌ عظيمٌ..فلا تكتبي.وإنَّ الصلاةَ أمام الحروف..حرامٌ
فلا تقربي..
وإنَّ مدادَ القصائدِ سمٌ..
فإياكِ أن تشربي.وها أنذا
قد شربتُ كثيراً
فلم أتسممْ بحبر الدواةِ على مكتبي
وها أنذا..
قد كتبتُ كثيراً
وأضرمتُ في كلِّ نجمٍ حريقاً كبيراً
فلا غضبَ اللهُ يوماً عليَّ
ولا استاءَ مني النبي..
ولا يمكن لكاتب أن يكتب جيداً إلا إذا كان قارئاً جيداً، فالقراءة هي الوقود الذي يشعل أفكارنا، ومن دون قراءة يتحول الكاتب إلى موقدة مطفأة.
هنا أجد نفسي محاطة بمجموعة من أخلص الأصدقاء، فهنا صديقي العزيز أبو الطيب المتنبي، وهناك يطالعني السياب، وفي الزاوية أسمع صوت درويش ونزار، وفي الركن القصيّ أصدقائي: طه حسين والعقاد وتولستوي وديستوفسكي وشكسبير وفريدمان كينز وآدم سميث.. وكثيرون ممن تربطني بهم علاقة فكرية حميمة، فهم يسافرون معي ويجوبون الأرض معي ويتنفسون داخل حقائبي.
والقارئ الحقيقي لا يكتفي بنبع واحد، القراءة بستان ممتد من البحر إلى السماء، ومكتبتي بازار يحتوي على كل أنواع الكتب.
في مكتبتي لا أمارس التمييز العنصري مع أصدقائي، ليس هناك شاعر أو مفكر أو أديب واحد على جدول القراءة، فالمشاعر والحاجة الفكرية والعاطفية هي التي تحدد لمن أقرأ اليوم.. ولمن أقرأ غداً..
وأكبر وأعظم ما فيها القرآن الكريم ثم السيرة النبوية، وفيها ركن أحبه كثيراً هو ركن الكتب والدراسات عن تاريخ الكويت والخليج والجزيرة العربية ودور المرأة في المجتمع وفي التنمية.
إنني منجذبة جداً إلى قراءة كتب التاريخ والسياسة، في محاولة لفهم دورنا في صنع مصيرنا ودور الآخرين في صنعه.
وقد استمرت علاقتي بمكتبتي تزداد يوماً بعد يوم وأصبحت جزءاً من تكويني.. ولكنها تعرضت إلى حدثين مهمّين في حياتها:
الأول فاجعة التدمير أثناء احتلال الكويت.. فقد دمر الغزاة المكتبة وداسوا ببساطيرهم الكتب.. وأحرقوا كل أصدقائي..
أما الحادثة الثانية فهي رحيلها عن منزلي عندما تبرعت بها لمكتبة الكويت الوطنية.. وقد كتبت مقالاً بالمناسبة عبّرت فيه عن شعوري حمل عنوان “صديقة العمر”.
إنني إنسانة تحاول أن تكون في خدمة الإنسان، وأرفع عنه الظلم، والشقاء، والمعاناة.
وأنا ككاتبة وشاعرة، أحاول أن أزرع عشبة صغيرة في الأرض المالحة، وأجعل مساحة الحب أكبر.. ومساحة الكراهية أقل.
وكمواطنة كويتية أحاول أن أضع ثقافتي ومعرفي في خدمة حركة التطور في بلادي..
أحاول أن أكون في خدمة الإنسان، وأن أضيء شمعة في ليل التائهين، والضائعين في الظلام، وأن أعيد للمرأة اعتبارها كشريكة أساسية في بناء الوطن.
إن الثقافة في نظري يجب أن توضع تحت تصرف الآخرين.. وإلا كانت ثقافة نظرية وفردية وأنانية.
كان الطريق شائكاً، وصادفت الكثير من الحواجز، وبقدر الأيدي التي صفّقت لي كانت هناك أيد مماثلة تحاول أن تدفعني إلى الهاوية.
مُنِعْتُ من الكتابة مرتين، كما تم منع المجلات والصحف من نشر أخباري أو أي كلمة عني، فكان الحصار مزدوجاً ليسجنني في دائرة المرأة المكبّلة بالتقاليد، ولكن حصيلة هذا المنع كانت مذهلة، فديواني “فتافيت امرأة” الذي تم منعه من التداول طبع منه 120 ألف نسخة على مستوى الوطن العربي في وقت كان فيه التوزيع صعباً، لقد تحوّلت كلماتي إلى طيور تمرّدت على السجن في الأرض، فانطلقت إلى السماء ليشاهدها كل الوطن العربي، ولتصبح رمزاً للكلمة الحرة.
ومن هذا المنطلق كانت مشاركاتي في أندية ثقافية واجتماعية وتربوية وسياسية في الوطن العربي وفي أوروبا وأميركا.. سواء في مجالات الأدب أو نواحي الاقتصاد.
الكتابة عندي ليست عملاً مجانياً، أو عملاً عبثياً، أو عملاً استعراضياً، إنها عمل يستهدف التغيير بالدرجة الأولى؛ تغيير الإنسان العربي جسدياً وعقلياً واجتماعياً وقومياً.
فالكاتب يكتب ليغيّر وجه الحياة ووجهة الإنسان، ولا خير في كاتب يتسلى في الكتابة، ولا يضعها في خدمة وطنه وخدمة الأسرة البشرية. وأنا لا أحتقر أحداً، ولكنني لا أعود أبداً لقراءة كاتب يغشني أو يكذب علي.
من هذا المنطلق أكتب الشعر، وأعتبره رسالة وعملاً تحريضياً لتحرير المرأة والرجل معاً من عقدهما التاريخية وميراث عصور التخلف.
إن الظروف التاريخية والاجتماعية ما زالت لا تسمح للمرأة بكشف كل أوراقها، فحرية التعبير لا تزال رغم التطور النسبي الذي حصل من امتيازات الذكور، وهذا الامتياز التاريخي الذي حصل عليه الرجل منذ أقدم العصور هو الذي جعله يتفوق على المرأة في ميدان الكلام والبوح والإعلان عن مشاعره.. في حين بقيت المرأة منغلقة على ذاتها ومتحفظة ومترددة، لأن أي كلام تقوله كان محسوباً عليها، وأي همسة عاطفية تصدر عنها كانت تأخذ شكل الفضيحة.
لكن دفاعي عن حق المرأة لا يعني معاداة الرجل، بل إن نصيب الرجل في أشعاري كبير، كما للمرأة نصيب كبير في أشعار الرجل.. ألسنا شركاء في هذه الحياة؟ أما المهادنة مع الرجل فسوف تحدث عندما يتخلى عن طموحاته العقارية والتعددية.
أنا لا أفرق بين أنوثة الكلمة وذكورتها، فالأدب كائن لا جنس له، وكل كاتب يغيّرني هو كاتبي المفضل.
هناك نهر عظيم اسمه الأدب، وما يكتبه الرجل أو تكتبه المرأة يصب في هذا النهر، فدخول المرأة إلى أي ميدان، سواء كان ميداناً ثقافياً أو علمياً أو سياسياً أو وزارياً أو إدارياً.. يكسر الاحتكار التاريخي القديم، ويؤدي إلى إعادة التوازن.
إن التحول قادم.. وأرى في الكويت نتاج ذلك، سواء على صعيد الأدب أو على الصعيد الجامعي أو على الصعيد المالي والاقتصادي، فالمرأة أساس التحولات الجذرية في كل شيء، كما هي أساس انبثاق الحياة.
ورغم أن ألوف النساء العربيات اللاتي دخلن الجامعات، ونلن أعلى الشهادات، وشغلن الوزارات والمناصب العامة، لكنهن ما يزلن يتضرجن خجلاً، ويعددن إلى العشرة قبل أن ينشرن بأسمائهن الحقيقية قصيدة غزل، أو يتحدثن عن أي شيء يخصهن، لأن هذه المصطلحات لا توجد إلا في قاموس الرجل.
الشعر هو الشعر أياً كان قائله بصرف النظر عن الجنس والجنسية واللغة، الشعر عبر العصور كان وسيبقى لغة واحدة كما هي لغة العصافير التي لا تتبدل بين غصن في جبل لبناني وآخر في واد صيني..
ومن قال: للشعر جنس.. وللنثر جنس.. ومن قال إن الطبيعة تكره صوت الطيور الجميلة؟
..
سافرت سعاد إلى الحب.. ومنه جاءت إليكم..
تقف أمامكم.. لتتلو قصائد الطهر المكتوبة في قلوبكم..
تلك هي أنا..
“سعاد” التي تقول لكم: إن وطنكم الكويت ثروته العلم لا بحيرات النفط.. فاجعلوا من أرض البترول أرض علم وإبداع..
شكراً لكم..
وشكراً لكل القائمين على هذا الملتقى..